الارتباك الكوني ونظرة في التاريخ الحديث – خالد غريب

اليوم وبعد تصريحات وزير الخارجية السوري 

عنوان الموقف الأمريكي 

المفاضلة بين استحضار مشهد الستينات بتوظيف التوجُّه الشيوعي المتحالف الآن مع إيران والشيعة وبين استدعاء تقارير راند  2004 و2007 بإعادة توظيف ما يُسمى بشبكات الإسلام المعتدل لاحتواء المتشدد والذي حقق بعض النجاحات في وقت ما ، فأمريكا ليس كما يتصوّر البعض لا تسير وفق قرارت سريعة مقابل تغيرات مرحلية بل تسير وفق استراتيجيات طويلة الأمد …
والحالتان السابقتان كانتا استراتجيتان استخدمتهما الولايات المتحدة عبر التاريخ الحديث ، فقبل الحرب الباردة كان التوجُّه الشيوعي العربي هو صمام الأمان للتمدّد الإسلامي كما حدث إبان عهد جمال عبد الناصر وحزب البعث وميشيل عفلق وحافظ الأسد وخلافه ، فبنظرة سريعة على التاريخ الحديث نجد أن أمريكا يوماً ما كانت رأس حربة زرع الشيوعية في المنطقة على عكس ما يتصور البعض.
فبعد حركة حسني الزعيم في سوريا بعد تسعة أشهر فقط من قيام إسرائيل، وبعد فشل الانقلابات المتتالية في سوريا، قررت دوائر الاستخبارات الأمريكية – كما يقول مايلز كوبلاند في كتابه “لعبة الأمم” – القيام بعملية أعمق جذوراً تصبح مركز إشعاع للشيوعية التي ربما تجد فيها شعوب المنطقة بديلاً مثالياً لبُعدها الديني العقدي فوقع الاختيار على مصر…
واتجهت السياسة الميكافيللية الأمريكية في الشرق الأوسط إلى فكرة ترويض الشعوب، لا إلى مجرد تغيير قيادات، لأن تلك الشعوب كانت بفطرتها وبالبديهة تميل الى جذورها ومعتقداتها الدينية إذا تُركت دون بديل، فكان لا بدّ من إيجاد زعامات معينة تملك القدرة – بدعم أمريكي خفي – على اتخاذ قرارات تعاكس أماني الشعوب وتفرضها فرضاً واقعاً قاهراً، على أن تبدو الاستجابة الجماهيرية بصورة طواعية عفوية ، ولذا لم تتوافر تلك الخصائص إلا لدى الشيوعيين برغم عدائهم الظاهر لما يُسمى الإمبريالية الأمريكية… ولذا يقول كوبلاند في نفس الكتاب ما نصه "إن عبد الناصر لو لم يوجد فإن لعبتنا كانت تحتم علينا أن نخلقه خلقاً، لأن علينا إيجاد هذا النوع من الحكام والأنظمة الذي تحتاجه سياساتنا اليوم وغداً"…. والدليل على ذلك بهذا الاجتماع السري بين رجال الاستخبارات الامريكية وتنظيم الضباط الأحرار آنذاك والذي هرول له روزفلت استجابةً لنداء السفير الأمريكي في مصر حينها كافري في مايو 1952 والذي أصرّ فيه روزفلت وضع مادة في الاتفاق تنص على ضرب الحركة الشعبية التي يقودها الإخوان المسلمون ذات الطابع الديني…
وحينها كان رأي الأمريكان أن الجيش المصري وحده القادر على إقامة حكومة يمكن أن تعمل لصالح الغرب بإرادتها أو دونها، أو كما قال كوبلاند حرفياً: "لأنك تستطيع أن تحصل من الديكتاتور على كل شيء – حتى لو كان عدوك – متى أوصلته إلى درجة يصبح بقاؤه أو استمراره فيها متوقفاً على مساعدتك أو تأييدك السري له" 
وهذا ما يحدث اليوم بالضبط مع بشار الأسد ، إلا أن هناك متغيرات كثيرة قد تفسّر عدم وضوح الرؤية لدى الأمريكان في هذه المرحلة ألخصها في الآتي:
أولا: بعد الحرب الباردة وإعلان العداء التاريخي بين الشيوعية والأمريكان تحولت المسارات كثيراً وتفككت تحالفات وبُنيت على حطامها تحالفات أخرى كبرت وترعرعت.
ثانياً: عدو الأمس ليس كعدو اليوم -  بمعنى [الآن وبعد آلاف الدراسات الغربية والأمريكية ثبت للغرب أن جماعة الإخوان المسلمين، وإن كانت ذات بُعدٍ ديني، إلا أن آلياتها وأدواتها تختلف عن عدو اليوم الدولة الإسلامية بالكلية، بل تنبه الأمريكان أيضاً في مرحلة من المراحل أن الإخوان أنفسهم قد يُعتبرون بديلاً جيداً للتوجّه الشيوعي بعد التغيرات التي طرأت على منهج الإخوان خلال العصور الحديثة، بل ظهر ذلك جلياً في تقارير مؤسسات الغرب كما سبق الذكر تقرير راند 2007 على سبيل المثال، بل استخدمت تلك الاستراتيجية ولازالت "احتواء التيارات المتشددة باستخدام شبكات الإسلام المعتدل" ].
ثالثاً: بعد الاحتكاك المباشر بين الولايات المتحدة والتيارات الجهادية اكتسبت أمريكا خبرات فكرية معينة لمواجهة تلك التيارات ومنها ما تسرب حول -دليل ديفيد بيترايوس لمكافحة التمرد- والذي فيه إشارة لإعادة فكرة توظيف جماعات ما يُسمى الاسلام المعتدل لمواجهة المتشددين نظام الصحوات ، إلا أن رؤية ديفيد بيترايوس للمعتدلين تختلف إلى حد كبير لرؤية مراكز البحوث الغربية، فهو ينظر إلى المعتدل على أنه ذلك المسلم السني الذي يمكن ابتزازه بالمال او بالمكاسب السياسية…. إلخ.
رابعاً: ليس كما يتوقع البعض أن ديفيد بيترايوس نجح وقدم للأمريكان خطوطاً جديدة في المنطقة لإعادة صياغة استراتيجياتها ضد الحركات الإسلامية، بل على العكس في رأيي إنه ورّط الولايات المتحدة توريطاً عميقاً لأنها بالفعل غيّرت استراتيجياتها تغييراً جذرياً بناءً على نجاحاتٍ مؤقتة كان لها أسبابها إلا أنها لا ترقى لتكون دافعاً لتغيير الاستراتيجية من جذورها.
لأن فكرة بيترايوس شجّعت الولايات المتحدة لضرب شبكات التيارات الإسلامية المعتدلة وعلى رأسها الإخوان المسلمين ظناً منها أن رهان بيترايوس كافٍ في المرحلة القادمة، بل وتغيير النظرة لفكرة المعتدل من الأساس، لذا مالت أمريكا للتيارات العلمانية كلّ المَيل وضربت حركات الإسلام السياسي واستعادت فكرة العسكريين كما حدث في مصر مؤخراً، وتركت مواجهة المتشددين لفكرة بيترايوس …

الصدمة الكبرى

ترتب على ما سبق وبعد ظهور الدولة الإسلامية التي قفزت على كل ذلك ودمّرت فكرة بيترايوس من الجذور وبكل وضوح ، وأمام تمدد الدولة الإسلامية وثباتها ارتبكت الولايات المتحدة وأربكت معها العالم أجمع كما هو ظاهر للعيان. وظهر هذا الارتباك في محاولاتها المتخبطة لحسم خياراتها واستراتيجياتها السابقة أوالجمع بينها في توقيتٍ حرج فظهر هذا الارتباك في الآتي:
- انهيار دليل مكافحة التمرد لديفيد بيترايوس 2005 أمام ثبات وتمدد الدولة الإسلامية جعل الأمريكان يعودون سريعاً إلى تيارات الإسلام المعتدل فتقرر ضرب المالكي رأس حربة ديفيد بيترايوس واستعادة آليات تقرير راند 2007 بالعودة إلى الحزب الإسلامي الممثل للإخوان المسلمين في العراق سليم الجبوري وتكوين فريق عمل معه ينسجم مع نفس الاستراتيجية.
- في مستويات إقليمية أخرى سيتعارض هذا الخيار تماماً كما في مصر والسعودية والأردن والإمارات ،  فكانت محاولات هيجل الأخيرة تمرير الأمر مع الخليج ومصر بخصوص هذا الشأن، إلا أنه كان له تداعيات وردود أفعال سيئة أرعب اطرافاً عدة.
فكانت تحركات جون كيري الهيستيرية في المنطقة والتي فشلت في تهيئة الأمر، ولذا كان الضوء الأخضر للاعتداءات الاسرائيلية لفتح ثغرة أخرى يمكن منها المناورة مع الأنظمة.
- والارتباك الذي سبّبته ضربات الدولة الاسلامية المتتابعة وسرعة أدائها لم يعطِ الأمريكان الوقتَ الكافي لصياغة الأنظمة العربية للفكرة الجديدة فاضطرت الولايات المتحدة لاستحضار فكرة توظيف الشوعيين وحلفهم الجديد، وهذا ما بدا واضحاً من توددهم الأخير مع بشار وفتح مجالات التقارب مع إيران ، إلا أن هذا الجانب أيضاً ليس خالصاً ، وقد نشأت فيه معضلة روسيا الجديدة ، فمؤخراً وبعد توريط ديفيد بيترايوس حاولت الولايات المتحدة تحجيم الدب الروسي بشكل عنيف مما أجبر الروس على الاستنفار، ومن الصعب أو من المستحيل الآن إعادة احتواء الروس في السياسة الأمريكية بعد تطورات كييف الأخيرة.
- وفكرة إعادة صياغة التحالفات في العقل الأمريكي يمكن قبولها نسبياً بمعنى محاولة استقطاب بعض حلفاء الروس الواقعين تحت ضغط فكرة ثورات الربيع العربي الأخيرة، وكما سبق الذكر حول سهولة استيعاب الديكتاتور بالإيعاز له أن بقاءه مُقترِن بالمباركة الأمريكية كما قال كوبلاند.
خلاصة التقرير أيها الأحبة
إن تحرّكات الولايات المتحدة داخل العراق والشام الآن من تسليح الأكراد وإعادة المشهد السياسي في العراق وسوريا… لا تمثل الاستراتيجية النهائية لها، بل هي محاولة لتقليل تمدد الدولة الإسلامية وتقليل سرعتها الحركية على الأرض لحسم الخيارات التالية:
1- تهيئة المنطقة من جديد لإعادة النموذج التونسي؛ وهو خلق أنظمة سياسية مختلطة بين التيارات العلمانية وتيار الإسلام السياسي على أن يكون الأخير مقلم الأظافر.2- إيجاد وإحياء فكرة البديل الشيوعي في المنطقة واستحضار مشهد الستينات الذي نجح في احتواء تمدد الإخوان المسلمين آنذاك.3- إيجاد استراتيجية بين الاثنين، أو على الأقل إمكانية تقسيم الخيارين السابقين جغرافياً، أي استحضار الفكرة الشيوعية في جزء من المنطقة وتمرير النموذج التونسي في أجزاء أخرى.
وفي النهاية أقول
لازالت الولايات المتحدة وحلفاؤها يعيشون أعنف مراحلهم التاريخية ارتباكاً حتى وإن تحالفوا مع بشار أو أعادوا الصحوات أو وجّهوا فضائيات الكون للنيل من الدولة ، أو إشعال الإسلاموفوبيا أو حتى باستخدام السحر والشياطين ، والسبب ببساطة :
أن الدولة الاسلامية في العراق والشام نشأت وفق استراتيجية جديدة أكاد أجزم أن الكثير لا ولن يعلم عنها شيئاً، لأن تلك الاستراتيجية لا تخضع لمفاهيم العلم الحديث ولا إلى التقدم المُذهِل في شتى العلوم ، ولا تعبأ بموازين القوى ، وهي ماضية في طريقها ، ولا أظن أن الأمريكان وحلفاءهم ولا حتى الكثير من أبناء هذه الأمة ، فاسدهم وصالحهم ، فهموا تلك الاستراتيجية 'اللهم إلا بعض حاخامات اليهود'.. يعلمونها
لأنها باختصار:
……………. استراتيجية الايمان بالغيب …………….

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماهي السادومازوشية فلسفياً ونفسياً؟

" منتصف آيار " .. غسان كنفاني

متن الأربعين النووية