مش عاجبك السيسي يا ظريف؟




منذ فترة قصيرة خرج “الأبنودي” في برنامج على قناة “صدي البلد” لينفي شائعة موته. انتشرت تلك الشائعة إلى الحد الذي دفع “الأبنودي” للخروج بنفسه ليؤكد “أنا حي” نتيجة الكلام على الشبكات الإجتماعية عن موت المؤلف، الأبنودي في حالتنا هنا. يعني “موت المؤلف” انقطاع علاقته بالنص الذي كتبه. لا يصبح قصد الكاتب من النص الذي أنتجه هو المفتاح لفهم النص. تعود تلك الفكرة إلى الناقد والفيلسوف الفرنسي رولان بارت.
“إننا ندرك الآن أن النص ليس مجرد خط من الكلمات التي تمنحنا معنى لاهوتيًا وحيدًا (رسالة مؤلف-إله) بقدر ما هو فضاء متعدد الأبعاد يمتزج فيه تنوع من الكتابات ليس من بينها كتابة أصلية”. كان هذا هو المعنى المقصود، لم يفهم الأبنودي ذلك. هنا تناقض ظريف: خرج الأبنودي ليؤكد وجوده، مما ساهم في تدعيم نظرية انقطاعه عن الناس وعجزه عن فهمهم، كان نفي الأبنودي لإشاعة وفاته دليلًا إضافيًا على هذه الوفاة.


“الوجود سابق على الماهية”. تلخص هذه العبارة العلاقة بين الهوية والوجود: نحن نوجد أولًا، ثم يتحدد من خلال وجودنا من نحن. تنطوي هذه العبارة على مسألة أن الهوية ليست معطاة لنا رغمًا عنّا بل نحن من نحدد هويتنا بأنفسنا، أي أننا نحدد من نحن بحرية وبالتالي نتحمل مسؤوليتنا عمّا نفعل لأن أفعالنا صادرة من قراراتنا الحرة.
تنطوي العبارة كذلك على تأكيد على أهمية الوجود الفاعل في العالم كمحدد أساسي للهوية. الوجود الفاعل معناه السعي من أجل تحقيق إمكانياتنا وعدم الاكتفاء بكونها إمكانيات: أي أن نفعل ما يحقق سرديتنا عن أنفسنا ويجعل لهويتنا تجلٍ في العالم بدلًا من أن تكون تلك الهوية سجينة عقولنا فحسب. لأننا لو لم نتواجد في العالم، فلا قيمة لما نصف أنفسنا به لأنه سيظل غير متحقق ولا دليل عليه.
يقرب “سارتر” هذا المعنى بالحديث عن شاب يموت وهو على وشك كتابة أول وأعظم أعماله الأدبية. تفقد كل مشروعات حياته، التي تتمثل في الاستعداد لأن يصبح كاتبًا، معناها. ويتساوى موت الشاب مع فرض أن هذا الشاب قرر ألا يكمل العمل على تلك الرواية العظيمة. لأن نفس هذه الاستعدادات قد أصبحت بلا معنى أيضًا. أي أنه قد تبرأ من تلك الاستعدادات في إطار كونه قد قرر أن يختار لنفسه هوية جديدة بديلة عن كونه كاتبًا.
ومن هنا تتحدد الهوية، بما يفعل الشخص لتحقيق سرديته عن نفسه في العالم، لكن الفعل نفسه لا ينتمي للشخص إلا بقدر ما ينتمي الشخص إليه: أي أنه يراه معبرًا عنه وعن هويته الحالية. ولو تخلى عن تلك الأفعال فإن هويته القديمة، كمثل الكاتب الشاب، تكون قد انتهت. بفرض وجود سلسلة من الأفعال التي تعبر عن شخص ما، ثم أعلن ذلك الشخص القطيعة بينها وبينه، يمكن بسهولة القول بأن هذا الشخص ك”هوية” قد مات. لأن هويته الحالية لم تعد محددة بسلسلة الأفعال تلك، ربما بسلسلة جديدة منها.
هنا فائدة مزدوجة: لا يقع على الشخص عبء تبرير أفعاله القديمة، لأنها لم تعد تنتمي إليه. واستقلت تلك الأفعال عن صاحبها وأصبحت تحيلنا إلى ذاتها من أجل تفسيرها. بهذا المعنى يمكن القول بموت الأبنودي.
بحسب التسمية، يمكن تعريف الشعر السياسي كتعبير جمالي عن موقف سياسي ما. شرطا الشعر السياسي هما الجمال والموقف، وأكثر شروط الشعر أساسية هو الجمال. قد يختلف الشخص مع الموقف السياسي لكن لا يسعه إلا الإعجاب بجمال الشعر نفسه ولا يقدر على إخراجه من حظيرة الشعر، والعكس غير صحيح إطلاقًا.
من هنا يمكن النظر لمسألة موت الشاعر من حيث كونها معادلة لها طرفين: إختلف موقف “الأبنودي” من “الميدان” إلى “باب المجلس”، الرحلة من “من كل جهات المدن الخرسا، ألوف شبان، زاحفين يسألون عن موت الفجر” إلى “مش عاجبك السيسي يا ظريف؟ والنت مليتوه بالتخاريف!” تلخص تغير الموقف وأيضًا، بشكل أكثر مأساوية، غياب الجمال عن الشعر.
تبدو قصيدة “باب المجلس” شديدة الرداءة بالمقارنة بكل شيء: بالمعيار العام للجمال، تبدو وكأن الأبنودي “بيكدرنا” بالمعنى العامّي للكلمة. وبالمقارنة بباقي شعر الأبنودي نفسه، حتّى لو قصرنا المقارنة على شعره السياسي فقط.
وعلى أي حال، تبدو قصيدة “الميدان” وكأنها نبوءة بما سيصير إليه الأبنودي في النهاية، تحمل بداخلها موقف الأبنودي الجديد المعادي للثورة من خلال معاداته لكل ما تمثله الثورة أساسًا مع الاحتفاء بها ظاهريًا، وبالمقارنة ب”أحزاني العادية،” تبدو “الميدان مسرفة للغاية في كلامها عن الوطن وعن مصر وعن الشباب، كمفاهيم مجردة، في مقابل سيادة فكرة الشعب كأناس من لحم ودم في “أحزاني العادية”. لا معنى للوطن خارج كونه الشعب بالذات. نتيجة لعدم الوضوح، أو لفرق الموقف بين “الأجيال”، يحدث التماهي عند الأبنودي ورفاقه بين مفهوم الوطن والدولة.
تعني مقولة “هتضيعوا مصر!” بالتحديد عند الأبنودي ورفاقه “هتضيعوا الدولة!” هذا التماهي بين الوطن والدولة يحيل إلى تماهٍ آخر بين الدولة والقائمين على مؤسساتها.
من هنا يمكن فهم “مش عاجبك السيسي يا ظريف؟” السيسي المعادل الموضوعي للدولة، والدولة هي الوطن، يمكن بعدها فهم التعادل الذي يفترضه الأبنودي في قصيدته تلك بين عدم إعجاب “الظريف” بالسيسي، وبين كونه خائنًا وممولًا بالضرورة. نجد جذور فكرة التماهي في قصيدة “الميدان” عند كلام الأبنودي أن الميدان قد ذكره ب”زمن ناصر” لسبب ما، لم يتوقف أحدهم لمحاولة فهمه في وسط الأجواء الاحتفالية لانضمام الأبنودي إلى الجيل.
ظاهريًا، تبدو فكرة “الجيل” شديدة التناقض في سياق كون معتنقيها مؤمنين بسخف مسألة القومية كمجموعة من البشر قرروا اعتباطًا أن قطعة الأرض التي ولدوا عليها بغير اختيارهم تجعلهم عصبة واحدة.
“الجيل” بالفهم السطحي تعني أمرًا مشابهًا: مجموعة تقرر أن تقاربهم العمري يجعلهم عصبة. ولكن المقصود بالجيل ليس نهائيًا كذلك. تعبر كلمة الجيل عن مجموعة من البشر يرغبون في العيش بمبادئ هذا الزمن، بهذا المعنى كان الأبنودي منتميًا لجيل الثوار، وبهذا المعنى أيضًا خرج منه. لم تكن معارضة جيل الآباء نابعة من كونهم “آباء” وإنما كانت بشكل أكثر أصالة نابعة من كونهم جيلا بالمعنى الأيدولوجي للكلمة: تمثلهم لمجموعة من الأفكار من خارج هذا الزمن بشكل لا يثير إلا الغثيان.
أحد تلك الأفكار، وربما الفكرة الرئيسية، هي وضع الرئيس كأب. تتجلى الفكرة الأبوية في شعر الأبنودي وفي شخصه. لا يعترض الأبنودي على لفظ “الخال” بل يرحب به بشدة، لأن الخال والد. “ولو أنت أبوها بصحيح وخايف عليها تركتها ليه بدن بتنخره السوسة.” لا يعترض الأبنودي في “الميدان” على المفهوم الأبوي في ذاته، لكنه يوجه اعتراضه إلى كون مبارك ليس أبًا حقيقيًا، لأنه ترك مصر تنخرها السوسة.
يمكن رد موقف الناصريين عمومًا، وليس الأبنودي فقط وأعني فئة معينة من الناصريين كانوا مؤيدين للثورة على مبارك ثم أصبحوا أعتى مؤيدي السيسي، يمكن رد التناقض في موقفهم إلى فرويد وعقدة قتل الأب: قتل الأب/مبارك من خلال نزع مكانته الأبوية عنه كرئيس للجمهورية، خلف لديهم إحساسًا بالذنب. كل دفاع عن السيسي الآن هو محاولات الناصريين لتعويض الإحساس بالذنب. الخلل في فهم منصب رئيس الجمهورية والاعتقاد بأبوية الرئيس، ثم الإحساس بالذنب بعد قتله، خلق شراسة في الدفاع عن السيسي. تتجلى هذه الشراسة عند الأبنودي في دهس الشرط الجمالي للشعر على حساب تأكيد الموقف.
يموت الشاعر عندما يغيب الجمال عن شعره، ويصبح الموقف (المجاني دائمًا) هو المحك الرئيسي للشعر على حساب الجمال، ومات الأبنودي كشخص عندما أصبحت “أحزاني العادية” معبرة عن علاء عبد الفتاح ويأسه الشخصي في خطاباته وليس الأبنودي نفسه. تنتمي “يا عم الظابط إنتا كداب” إلى مجموعة المقولات التي قد تصدر عن علاء عبدالفتاح أو محمد سلطان، لا يمكن أن تسمع من “الأبنودي” اليوم.
لا داعي إطلاقًا لكي يبرر الأبنودي اليوم موقفه أو يفسر هذا التحول، مات الأبنودي بكل المعاني الممكنة لموته كفرد وكشاعر: لا صلة أساسًا بينه وبين أعماله، بالمعنى الفلسفي ل”موت المؤلف،” لا وجود لخط متصل بينه وبين أعماله، على مستوى الموقف وعلى مستوى الجمال. يموت الأبنودي كشخص حفاظًا على الأبنودي كشاعر شديد الجمال.

http://www.sasapost.com/opinion/sisi/

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماهي السادومازوشية فلسفياً ونفسياً؟

" منتصف آيار " .. غسان كنفاني

متن الأربعين النووية