أتخن منه ودوسنا عليه


يبدو أن أساس تعامل المؤسسات الأمنية مع أية معارضة للسلطة هو منع حدوث أية تجمعات قد يلتقي فيها معارضو النظام من الأصل، فبدءًا من تطبيق جائر لقانون التظاهر، ومرورًا بالقبض على قيادات شبابية من على المقاهي بتهم مضحكة، وليس انتهاءً بمنع حضور الجماهير إلى ملاعب كرة القدم، تظل محاولات السلطة قائمة في هذا الشأن.
وتبقى المعضلة التي تواجه السلطة الحالية في محاولاتها تأميم المجال السياسي في التجمعات الشبابية في الجامعات، غير خاف عن ذهنها التوتر الحادث في الجامعات العام الماضي، والذي لم ينته بنهاية امتحانات آخر العام، واستعادةً لهدوء مؤقت لعاصفة جديدة في العام الجديد.
لم تنتظر العاصفة طويلًا، وبدأت في هبوب رياحها منذ اليوم الثاني للدراسة، يوم أن انطلقت شرارة ثورة الطلاب على النظام الأمني للعام الجديد، والذي تمثل في إسناد مهام “الأمن” لشركات أمن خاصة مثل شركة “فالكون”، مع إعطائها كافة الصلاحيات الأمنية التي كانت تتمتع بها مثيلتها من الشرطة من قبل، حيث وصل الغضب إلى مراحل الاعتداء على بوابات الأمن الإلكترونية وتدميرها، وحتى الاعتداء على أفراد الأمن الخاص الذين فروا مذعورين وسط هذه الحشود الغاضبة.
ومنذ هذا الوقت وبدأ الجدل مرة أخرى – أو بالأحرى عاد – حول الدور المؤثر الذي يلعبه الأمن في الجامعات، وعن جدوى وجود أمن للجامعات من الأصل، ووصلت تفسيرات البعض إلى أن ما حدث مع أمن الشركات الخاصة بكل هذه السرعة لهو أمر “مدبر” الغرض منه رجوع قبضة الشرطة الأمنية للجامعات مرةً أخرى، واعتبروا أن تلك الخطوة غير المدروسة من الطلاب ستؤدي إلى “انتكاسة” حقيقية برجوع الأوضاع إلى سابق عهدها، معتبرين أن وجود شركات للأمن والحراسة بعيدًا عن قبضة الشرطة نصرًا في حد ذاته.
طغت تلك الفكرة حتى على قطاعات من المنتسبين للثورة، لينضموا بدورهم إلى قطاع أعرض من المؤيدين للسلطة الناقمين على الطلاب، الباحثين عن استقرار هزيل، ليصبح الطلاب هدفًا سهلًا في مرمى جميع الأطراف في النهاية.
إن تفسير الأحداث باستخدام نظرية المؤامرة كما يتصور البعض يفترض أول ما يفترض أن السلطة تحتاج إلى كل تلك القصة لتحقيق هدفها برجوع القبضة الأمنية للدولة على الجامعات، وهذا أمر مستغرب أن تصدقه قطاعات ثورية شاهدت ولا تزال تشاهد السلطة وهي تضرب بعرض الحائط كل الأعراف والقوانين لتفعل ما تشاء وقتما تشاء، ويكأن ما يمنع السلطة من تحقيق هذا الهدف هو وجود شركات الأمن التي – ويا للمفاجأة – أتت بها السلطة ذاتها!
لم يكف هؤلاء كل الدماء التي سالت ولا تزال في الشوارع على مسمعنا وبصرنا جهارًا نهارًا، ولا اعتقال الآلاف دون تهم أو بتهم مطاطة مضحكة مبكية، أو حتى من حالفه الحظ منهم لمجرد تحويله إلى المحاكمة بعد أن تحول مجرد الحبس الاحتياطي إلى عقاب، لينال محاكمة هزلية تطيح به في غياهب السجون أعوامًا أخرى وسط صمت مطبق من الجميع، ألم يكفهم كل هذا لكي يقنعوا أنفسهم أنها سلطة لا تبالي بأحد، وتفعل ما يحلو لها وقتما تشاء، وليست في حاجة لنسج كل خيوط تلك المؤامرة لتصدرها المشهد بالجامعة مرةً أخرى؟!
ثم ماذا عن اعتبار وجود تلك الشركات بديلًا عن أمن السلطة الرسمي نصرًا في حد ذاته؟ من الذي قال هذا؟
– هل شارك الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والعاملين بالجامعات في اختيار شركات الأمن “الخاصة” تلك؟
– لا
– من الذي أتى بهم وأوكل إليهم مهام عملهم (غير الواضحة بالمناسبة)؟
– السلطة القائمة
– ثم تفترض بعد ذلك أن هذا نصرًا مؤزرًا؟! على أساس أن هذه الشركات سوف تعمل في صالحك دون تدخل السلطة التي أتت بها؟!
هذا افتراض لا أساس له ولا شك! هل كان الهدف هو إبدال قبضة أمنية “ميري” تشارك في تعيين المعيدين والعمداء ورؤساء الأقسام، وتزرع الجواسيس وسط الطلاب، وتحيل من تريد منهم إلى مجالس تأديب وتتسبب في فصلهم أحيانًا، وتقوم بتأميم المجال السياسي داخل الجامعة حيث لا صوت يعلو فوق صوت التسبيح بحمد السلطة القائمة، هل كان الهدف هو إبدالها بأخرى تقوم بذات الدور ولكن بملبس آخر و”يونيفورم” آخر حتى نعتبر ذلك نصرًا ندافع عن وجوده؟
طالما الأمر كذلك، لماذا إذن إستعانت السلطة بشركات الأمن الخاصة ولم تتدخل هي مباشرة بشرطتها وأمنها كما كان الحال من قبل؟
قبل أن تجيب على هذا السؤال عليك أولًا أن تتذكر ما قامت به الدولة وشرطتها وأمنها في العام الماضي من قبضة أمنية شديدة، واقتحام يومي للجامعات – وخصوصًا جامعة الأزهر وحتى مدينتها الجامعية – واستخدام جهري للخرطوش والرصاص الحي داخل الجامعة، وتساقط يومي للشهداء من الطلاب حتى داخل قاعات المحاضرات في طول جامعات البلاد وعرضها، وحملات اعتقالات واسعة لم تفرق بين أحد، ثم محاولات تحجيم عمل الاتحادات الطلابية ورجوعها لسابق عهدها بالتعيين الأمني، ثم إلغاء انتخابات عمداء الكليات ورجوعه بالتعيين كذلك، وأمور أخرى كثيرة.
بعد أن تتذكر كل هذا فلتجبني إذن ماذا كانت نتيجته؟ هل انتصرت السلطة في النهاية؟
لم تستطع السلطة برغم كل هذا البطش السيطرة على الأوضاع، واضطرت في النهاية إلى تقليل أوقات الدراسة المقررة، وتقديم مواعيد الامتحانات برغم تأجيل دخول الفصل الدراسي الثاني كثيرًا، وتم “سلق” المواد للطلبة في المحاضرات لإنهاء المناهج بسرعة، ثم بتسهيل الامتحانات، وغض الطرف عن حالات الغش الواسعة، لتنهار المنظومة التعليمية المنهارة أصلًا، في سبيل المنظومة الأمنية! ماذا يمكن أن تسمي ذلك إلا أنه تعريف الفشل؟
من أجل هذا جاءت السلطة بمن يحل محلها في كل ما كانت تقوم به ولكن بوجه مدني، دون تورطها بالدخول في مواجهات مباشرة خاسرة لا محالة مع الطلبة، هذا الذي اعتبره البعض “انتصارًا على القبضة الأمنية”!
بعد انهيار الأمن الجامعي الجديد لم يعد للسلطة خيارات كثيرة للتعامل مع طلبة الجامعات، فإما أنها ستتورط مرة أخرى في مواجهات مباشرة تغرقها في أوحال الفشل، وتكسر “هيبتها” التي تحاول تسويقها وسط أنصارها، وتجلب لها أعداءً جدد في كل يوم، وتضطرها لفرض الحماية على الجامعات بقوة الدبابة مما يضر بمظهرها بالداخل والخارج، إما ذلك وإما أنها ستستخدم نفس الحل المستخدم في مباريات كرة القدم بإغلاق الجامعات، وإنهاء هذا الصداع المزمن، وليذهب المستقبل إلى الجحيم!
تظل المشكلة الكبرى في تعامل السلطة ومؤيديها مع طلبة الجامعة على أنهم “شوية عيال” يمكن السيطرة عليهم بحلول الستينات الأمنية، غير مدركين أن نفس هؤلاء “شوية العيال” لم يرهبهم نظام مبارك ولا أي نظام تال له بخرطوشه ورصاصه وقناصته وأمن دولته.
ليتهم يستمعون جيدًا لهتافات الطلبة علهم يفهمون:
أتخن منه ودوسنا عليه!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماهي السادومازوشية فلسفياً ونفسياً؟

" منتصف آيار " .. غسان كنفاني

متن الأربعين النووية