رهان باسكال: المزحة التي قهرت إرادة الإلحاد
أحمد سامي
إن كنت ممن يحبون المراهنات فسوف تستمتع، أما إن لم تكن تحب المراهنات فستكون المتعة أكبر!
العلم والدين والسياسة والفن وغيرهم هم جوانب الحياة المختلفة التي تحيط بنا ولا نحيط بها، هل تعلم أحدًا أحاط بأي منها إحاطة شاملة يقينية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؟ هل أحاط أحد ما بالعلم كاملًا؟ هل استحوذ شخص ما على دفّتي الفن بين جنبيه؟ للأسف أو ربما لحسن الحظ فإنّ كل جانب من جوانب الحياة يتصف باللانهائية الموجبة للشك فلا يمكنك التيقن مما لا نهاية له، فكيف نعيش تلك الحياة إذن وكيف نأخذ قراراتنا اليومية أو السنوية؟ إنها نظرية الاحتمالات الرياضية أيها السادة، أداتنا في التعاطي مع ما نجهل في حياتنا حتى ولو لم نشعر، قراراتنا هي ردود أفعال لما وقر في قناعاتنا من مرجحات علمية أو عقلية أوحتى وجدانية تجاه أمر ما.
بهذه المقدمة استهل الشاب الثلاثيني فيلسوف الرياضيات الفذ بليز باسكال (Blaise Pascal) حديثه عن نظرية إيمانية جديدة تمزج بين العلم والدين وسط ثلة من علماء الرياضيات الذين ارتأوا أن الإلحاد تاج على رؤوس العلماء لا يراه إلا المؤمنون الجهلة.
“إذًا فبالعلم وبالرياضيات ننبذ فكرة الرب؟” تساءل باسكال، “نعم” أجاب من هم أقل منه علمًا ودراية بالرياضيات.
عندها طرح باسكال نظريته الرياضية وهي ببساطة وباستخدام نظرية الاحتمالات، قال إن مسألة وجود الله شأنها شأن جوانب الحياة عامة مثل العلم والسياسة وغيرها، فلماذا تكون استثناءً من نظرية الاحتمالات؟ وبنظرية الاحتمالات فإن أمر وجود الإله يحتمل أن يكون موجودًا أو ألا يكون موجودًا، بإدماج الاحتمالين السابقين مع وضعك من الإيمان (إما أن تكون مؤمنًا أو غير مؤمن) ينتج عن ذلك بالتباديل أربعة احتمالات كما في جدول باسكال التالي:
لم يسلم المسكين باسكال من الهجوم اللاذع بعد تلك النظرية البسيطة التي أُطلق عليها فيما بعد اسم “رهان باسكال” حتى بعد وفاته ربما لم يرقد في سلام بعد، من فرط ما انتهكت تلك النظرية، وفي رأيي الشخصي فإن الرجل لم يحظ بأية فرصة للتوضيح أصلًا بعد ذلك ومات ولم يكمل عقده الرابع، حتى فولتير وديفيد هيوم بعد باسكال بعشرات السنين شددوا على طفولية فكرة استخدام هذا الرهان في الاستدلال على وجود الله، ولكن من قال أن هذا الرهان هو للاستدلال على وجود الله أصلًا؟ حتى باسكال الكاثوليكي القادم من خلفية تظن أن الله اختص القليل من البشر فقط بالرحمة لم يدّع ذلك.
ابتداءً من ملحدي عصره، مرورًا بفولتير (Voltaire) (الذي كان ربوبيًا على الأرجح) وبعض ندماء صالون بارون دولباخ (Baron D’holbach) من آدم سميث (Adam Smith) وديفيد هيوم (David Hume) وغيرهم ووصولًا إلى سام هاريس (Sam Harris) وريتشارد دوكينز (Richard Dawkins) وكريستوفر هيتشينز (Cristopher Hitchens) كلهم يرددون نفس قائمة الانتقاد المشهورة على الرهان ومنها:
وربما من فرط السخرية أن تكون النقطة الأخيرة هي التي يحتج بها ريتشارد دوكينز الذي يعتبر اغتصاب الأطفال أفضل كثيرًا من تعليمهم الدين وكذلك سام هاريس الذي اقترح ضرب المسلمين كلهم بقنابل نووية على سبيل الاحتياط.
والحقيقة أن هذا الرهان قد أُسيء توظيفه أو فهمه من قبل معظم الناس وربما كان سوء الفهم هذا متعمدًا على سبيل التشويه والتعتيم، حتى باسكال نفسه لم يقل أن هذه النظرية دليل على وجود الله، ما أراد باسكال توصيله هو أن هذا رهان اضطراري ما من أحد إلا وعليه الاختيار ما بين الإيمان أو عدم الإيمان.
هذا الرهان موجه إلى من يسمون باللاأدريين أو اللااكتراثيين الذين يظنون أن الوقوف على الحياد من هذه القضية هو أحد الاختيارات المتاحة، هذا الرهان هو دق لناقوس الخطر على مسامع من يقول أنا لا أدري هل هناك إله أم لا ثم يتابع حياته ويتوقف عن البحث عن الحقيقة كأن الأمر لا يعنيه، كلا يا عزيزي، أنت واهم، لابد أن يعنيك الأمر، هذا ربما يكون الرهان الوحيد في الحياة الذي لا يمكنك الانسحاب منه.
هذا الاختيار يندرج ضمن ما عرّفه رائد علم النفس الحديث ويليام جيمس (William James) في نظريته “الاختيارات الأصلية” وهي الاختيارات التي لا يمكنك التنصل منها ولا تملك إلا أن تختار، فإذا فشلت كل الأدلة العقلية والعلمية في ترجيح كفة إحدى الاختيارين الأصليين فإنك تلجأ إلى المرجحات الوجدانية.
حتى الملحد الإيجابي قد اتخذ قراره، وإذا اكتشف بعد الموت أن هناك إله فسوف يجادله مدافعًا بأنه لم تكن هناك أدلة كافية كما قال برتراند راسل (Bertrand Russell) وأيّده في ذلك ريتشارد دوكينز، ولكن ماذا لو اكتشف اللاأدري وجود الإله بعد الموت؟ ماذا سيقول له؟ لم آبه بوجودك؟ لم يكن يعنيني الأمر؟ قررت أن مسألة وجودك لا تعلو قيمة لديّ عن وجود الديناصورات في إحدى جزر الأطلنطي؟ كما قال لي أحدهم.
ما هو المقدار المطلوب من الجهد والوقت لإقناع شخص ما أن قضية وجود الإله لابد أن تكون القضية الأهم لدى الجميع؟ أليس من السخرية بمكان أن يتفرغ اللاأدري لدراسة كل ثغرات الأديان الشكلية أو الموضوعية والوصول إلى أن الأديان مجرد خرافات ثم يكرس كل وقته ومجهوده لإقناع العالم كله بذلك ثم إذا سألته عن وجود الله يجيب “لا أدري” وأحيانًا “لا أكترث”؟ لقد اهتم كثيرًا بتفنيد الأديان ولكن لم يأبه بقضية وجود الإله الذي هو أصل الأديان! أي منطق متقرح هذا؟!
هذا الرهان في رأيي لا يعدوا مجرد مزحة ذكية، هدفها إيقاظ العقول، توصيل رسالة مبطنة لمن يدعي أنه لا إله إلا العقل، هذا رهان لا مناص منه، لا تؤمن بالله على سبيل الاحتياط، ولكن تهمل الأمر برمته، ابحث قدر استطاعتك بإخلاص، وإن اتضح في النهاية أن الإله ليس هو نفسه الذي توصلت إليه بعقلك فلا تقلق فهو من خلق لك عقلك وهو أعلم بإخلاصك، أما عن غاية الإيمان وحسن الخلق فأنا لا أرى تعارضًا وفي نفس الوقت لا أظن أن الإله لن يبالي عمن لم يقدره حق قدره وفضل عليه باقي خلقه، لا تأخذ قرارًا بالإيمان بل خذ قرارًا بالبحث عن الحقيقة ونبذ الكلل والملل.
خاطبهم باسكال باللغة التي يجيدونها وكان هو أبلغ من نطق بها فأقام عليهم الحجة فجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ولكنها “إرادة الإلحاد” عزيزي القارئ، هكذا سماها باسكال.
Source Link
إن كنت ممن يحبون المراهنات فسوف تستمتع، أما إن لم تكن تحب المراهنات فستكون المتعة أكبر!
العلم والدين والسياسة والفن وغيرهم هم جوانب الحياة المختلفة التي تحيط بنا ولا نحيط بها، هل تعلم أحدًا أحاط بأي منها إحاطة شاملة يقينية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؟ هل أحاط أحد ما بالعلم كاملًا؟ هل استحوذ شخص ما على دفّتي الفن بين جنبيه؟ للأسف أو ربما لحسن الحظ فإنّ كل جانب من جوانب الحياة يتصف باللانهائية الموجبة للشك فلا يمكنك التيقن مما لا نهاية له، فكيف نعيش تلك الحياة إذن وكيف نأخذ قراراتنا اليومية أو السنوية؟ إنها نظرية الاحتمالات الرياضية أيها السادة، أداتنا في التعاطي مع ما نجهل في حياتنا حتى ولو لم نشعر، قراراتنا هي ردود أفعال لما وقر في قناعاتنا من مرجحات علمية أو عقلية أوحتى وجدانية تجاه أمر ما.
بهذه المقدمة استهل الشاب الثلاثيني فيلسوف الرياضيات الفذ بليز باسكال (Blaise Pascal) حديثه عن نظرية إيمانية جديدة تمزج بين العلم والدين وسط ثلة من علماء الرياضيات الذين ارتأوا أن الإلحاد تاج على رؤوس العلماء لا يراه إلا المؤمنون الجهلة.
“إذًا فبالعلم وبالرياضيات ننبذ فكرة الرب؟” تساءل باسكال، “نعم” أجاب من هم أقل منه علمًا ودراية بالرياضيات.
عندها طرح باسكال نظريته الرياضية وهي ببساطة وباستخدام نظرية الاحتمالات، قال إن مسألة وجود الله شأنها شأن جوانب الحياة عامة مثل العلم والسياسة وغيرها، فلماذا تكون استثناءً من نظرية الاحتمالات؟ وبنظرية الاحتمالات فإن أمر وجود الإله يحتمل أن يكون موجودًا أو ألا يكون موجودًا، بإدماج الاحتمالين السابقين مع وضعك من الإيمان (إما أن تكون مؤمنًا أو غير مؤمن) ينتج عن ذلك بالتباديل أربعة احتمالات كما في جدول باسكال التالي:
لم يسلم المسكين باسكال من الهجوم اللاذع بعد تلك النظرية البسيطة التي أُطلق عليها فيما بعد اسم “رهان باسكال” حتى بعد وفاته ربما لم يرقد في سلام بعد، من فرط ما انتهكت تلك النظرية، وفي رأيي الشخصي فإن الرجل لم يحظ بأية فرصة للتوضيح أصلًا بعد ذلك ومات ولم يكمل عقده الرابع، حتى فولتير وديفيد هيوم بعد باسكال بعشرات السنين شددوا على طفولية فكرة استخدام هذا الرهان في الاستدلال على وجود الله، ولكن من قال أن هذا الرهان هو للاستدلال على وجود الله أصلًا؟ حتى باسكال الكاثوليكي القادم من خلفية تظن أن الله اختص القليل من البشر فقط بالرحمة لم يدّع ذلك.
ابتداءً من ملحدي عصره، مرورًا بفولتير (Voltaire) (الذي كان ربوبيًا على الأرجح) وبعض ندماء صالون بارون دولباخ (Baron D’holbach) من آدم سميث (Adam Smith) وديفيد هيوم (David Hume) وغيرهم ووصولًا إلى سام هاريس (Sam Harris) وريتشارد دوكينز (Richard Dawkins) وكريستوفر هيتشينز (Cristopher Hitchens) كلهم يرددون نفس قائمة الانتقاد المشهورة على الرهان ومنها:
- هل تطلب منا أن نؤمن بالله على سبيل الاحتياط؟ أيكون إلهك المزعوم بهذه السطحية؟
- ماذا لو كان الإله ليس هو إله المسيحية؟ ماذا لو كان فيشنو أو زيوس أو الحصان الوردي المجنح وحيد القرن؟
- إن الإيمان ليس قرارًا يمكن اتخاذه بل هو ردُ فعل لأدلة نصدقها، هل اصطناع التصديق أفضل من الإلحاد؟
- لقد أغفلت العديد من الاحتمالات، ماذا لو كانت هناك حياة أخرى ولكن لا يوجد إله؟ ماذا لو كان هناك إله ولا توجد حياة أخرى؟
- لماذا تفترض أن الإله يهتم لأمر الإيمان به من عدمه أكثر من حسن أخلاقنا وتعاملنا الحسن مع الآخرين؟
وربما من فرط السخرية أن تكون النقطة الأخيرة هي التي يحتج بها ريتشارد دوكينز الذي يعتبر اغتصاب الأطفال أفضل كثيرًا من تعليمهم الدين وكذلك سام هاريس الذي اقترح ضرب المسلمين كلهم بقنابل نووية على سبيل الاحتياط.
والحقيقة أن هذا الرهان قد أُسيء توظيفه أو فهمه من قبل معظم الناس وربما كان سوء الفهم هذا متعمدًا على سبيل التشويه والتعتيم، حتى باسكال نفسه لم يقل أن هذه النظرية دليل على وجود الله، ما أراد باسكال توصيله هو أن هذا رهان اضطراري ما من أحد إلا وعليه الاختيار ما بين الإيمان أو عدم الإيمان.
هذا الرهان موجه إلى من يسمون باللاأدريين أو اللااكتراثيين الذين يظنون أن الوقوف على الحياد من هذه القضية هو أحد الاختيارات المتاحة، هذا الرهان هو دق لناقوس الخطر على مسامع من يقول أنا لا أدري هل هناك إله أم لا ثم يتابع حياته ويتوقف عن البحث عن الحقيقة كأن الأمر لا يعنيه، كلا يا عزيزي، أنت واهم، لابد أن يعنيك الأمر، هذا ربما يكون الرهان الوحيد في الحياة الذي لا يمكنك الانسحاب منه.
هذا الاختيار يندرج ضمن ما عرّفه رائد علم النفس الحديث ويليام جيمس (William James) في نظريته “الاختيارات الأصلية” وهي الاختيارات التي لا يمكنك التنصل منها ولا تملك إلا أن تختار، فإذا فشلت كل الأدلة العقلية والعلمية في ترجيح كفة إحدى الاختيارين الأصليين فإنك تلجأ إلى المرجحات الوجدانية.
حتى الملحد الإيجابي قد اتخذ قراره، وإذا اكتشف بعد الموت أن هناك إله فسوف يجادله مدافعًا بأنه لم تكن هناك أدلة كافية كما قال برتراند راسل (Bertrand Russell) وأيّده في ذلك ريتشارد دوكينز، ولكن ماذا لو اكتشف اللاأدري وجود الإله بعد الموت؟ ماذا سيقول له؟ لم آبه بوجودك؟ لم يكن يعنيني الأمر؟ قررت أن مسألة وجودك لا تعلو قيمة لديّ عن وجود الديناصورات في إحدى جزر الأطلنطي؟ كما قال لي أحدهم.
ما هو المقدار المطلوب من الجهد والوقت لإقناع شخص ما أن قضية وجود الإله لابد أن تكون القضية الأهم لدى الجميع؟ أليس من السخرية بمكان أن يتفرغ اللاأدري لدراسة كل ثغرات الأديان الشكلية أو الموضوعية والوصول إلى أن الأديان مجرد خرافات ثم يكرس كل وقته ومجهوده لإقناع العالم كله بذلك ثم إذا سألته عن وجود الله يجيب “لا أدري” وأحيانًا “لا أكترث”؟ لقد اهتم كثيرًا بتفنيد الأديان ولكن لم يأبه بقضية وجود الإله الذي هو أصل الأديان! أي منطق متقرح هذا؟!
هذا الرهان في رأيي لا يعدوا مجرد مزحة ذكية، هدفها إيقاظ العقول، توصيل رسالة مبطنة لمن يدعي أنه لا إله إلا العقل، هذا رهان لا مناص منه، لا تؤمن بالله على سبيل الاحتياط، ولكن تهمل الأمر برمته، ابحث قدر استطاعتك بإخلاص، وإن اتضح في النهاية أن الإله ليس هو نفسه الذي توصلت إليه بعقلك فلا تقلق فهو من خلق لك عقلك وهو أعلم بإخلاصك، أما عن غاية الإيمان وحسن الخلق فأنا لا أرى تعارضًا وفي نفس الوقت لا أظن أن الإله لن يبالي عمن لم يقدره حق قدره وفضل عليه باقي خلقه، لا تأخذ قرارًا بالإيمان بل خذ قرارًا بالبحث عن الحقيقة ونبذ الكلل والملل.
خاطبهم باسكال باللغة التي يجيدونها وكان هو أبلغ من نطق بها فأقام عليهم الحجة فجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ولكنها “إرادة الإلحاد” عزيزي القارئ، هكذا سماها باسكال.
Source Link
تعليقات