السجن مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق
إن النظر لطبيعة الصراع القائم بين رافضي ممارسات الدولة، والراغبين في التغيير من جهة، وبين الدولة المصرية والقائمين على السلطة فيها من جهة أخرى، يؤكد على أن ما تشهده مصر اليوم على مختلف الأصعدة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، تجاوز كونه (رجوع) أو (ردّة) إلى أوضاع ما قبل اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير.
فالطاقات اللي كانت موجهة لإسقاط النظام وملاحقة أطلاله وبقاياه، وتغيير دفة الدولة المصرية من التبعية للاستقلال الوطني، ومن الوصاية العسكرية لحكم مدني يَعبُر بالوطن من جور حكم الفرد، إلى الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، ويحقق ويتّسق مع رؤى هذا الجيل الجديد من الشباب، أصبحت طاقاتهم اليوم مُستنزفة في متابعة أخبار المعتقلين من النشطاء ومن غير النشطاء، وصار منتهى آمالنا مع كل صباح، أن يُفرج عن أحدهم، أو أن يُخلى سبيل أحدهم على ذمة قضايا أخرى.
بات الحلم اليوم محدودًا (أن يصبح أحدهم على الأسفلت)، ويُبذل لأجل ذلك ما تبقى من الجهد، ولسان حالنا يقول: إذا كان لابد لنا من ابتلاع الهزيمة، وإذا كانت الموجة عاتية هذه المرّة لدرجة اقتناعنا بالعجز عن الوقوف في وجهها، وإذا كنا لا نستحق ما ظننا أننا قادرين على تحقيقه، فلتدفعوا إذن بشباب مصر خارج المعتقل، إلى الأسفلت، وهذا أضعف الإيمان.
إن النظام الحالي يعي تمامًا أنه أحكم قبضته، وفرض نمطًا يناسبه لإدارة الصراع، ورسم لنا دائرة تناسبنا، نبدد فيها طاقاتنا بلا طائل، بعد أن أبطل مفعول الساسة والسياسة والنخب، الذين صاروا يتنافسون على شرعنة النظام، وبعد أن اعتقل النشطاء من قيادات الحركات والكيانات بتياراتها المختلفة، الذين فرّقتهم ثلاث سنوات من الاستقطاب والمزايدات وسوء التصرف وقلة الخبرة، فصرنا – نحن الناجون – ننادي بحريّة فلان، التي لن يحظى بها حتى وإن أصبح بجانبنا (على الأسفلت)، بدلًا من أن ننادي بالحرية لوطننا، وبحقنا في امتلاكه.
إلا أن كل ما سبق لا يؤدّي وحده لأن يُحكِم نظامًا قبضته بهذا الشكل المبالغ فيه من الاستبداد والعنف والتنكيل، إن لم تكن ثمّة علة في مقاومته، علّة التشتت، وانعدام الأفق والرؤية، وربما الثقة بين فصائلها المختلفة.
إن نجاح أي ثورة – أو على الأقل ثورتنا القادمة لا محالة – لا تحددها مدى رغبة الجموع في إزاحة نظام مستبد وفقط، بل بقدرتها على التأثير وتنفيذ ما ترمي إليه، ومقاومة محاولات احتوائها والانقلاب عليها، وهذا في حد ذاته يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالإجابة على أسئلة كثيرة عن ما بعديّات سقوط النظام.
إن الاعتماد على حشد الرأي العام والجماهير الغفيرة لاسقاط نظام شمولي استبدادي، دون توحد رؤى الداعين للحشد بخصوص ما بعد سقوط النظام، لن يؤدي – إن نجح أصلًا – لأكثر مما أثمرت عنه ثورة الخامس والعشرين من يناير، وسرعان ما ستتفتت قوى الثورة وتتصارع فيما بينها مفسحةً المجال لنظام جديد أكثر فاشيةً ودمويةً واستبدادًا، وموجة أكثر قسوة من الإحباط واللامبالاة.
بل إني أدّعي أننا قد وصلنا لمرحلة، لن ينجح فيها حشد الجموع إلا من خلال جماعة وطنية شابة، خارج نطاق النخبة، تملك تصورًا تفصيليًا عن كيفية إدارة البلاد بعيدًا عن كذب خرائط الطريق، لتُلهم الشباب الغاضب الرافض لعسكرة البلاد وسلب المجال العام.
إن الإجابة على سؤال (ماذا بعد سقوط النظام؟) هي الأولى بالتدارس والمناقشة، ولا أعني هنا التدارس النظري الهادف للتحليل والتنظير وتفنيد الاحتمالات، بل أعني تدارسًا من وجهة نظر الفاعل المخطِّط، ومن قلب مربّع الثورة، بغية سد كل الثغرات المحتملة وخلق بديل يصب في مصلحتها.
إن ما أعنيه لا يتعلّق فقط بوعي فردي منفصل عن القدرة على التأثير في المجال العام، أو بوعي مجموعات مدنية مُشتتة لا ترى بعضها بعضا، أو أحزاب تعوّد أفضلها على استخدام سياسة الممكن والمتاح. إن السجن – في رأيي – هو أفضل بيئة لخلق تلك النواة الجديدة لتُلهم كل من سبق ذكرهم ممن لازالوا يحلمون على استحياء بخروج المعتقلين (على الأسفلت)، ليعيدوا توجيه بوصلة النضال إلى اتجاهها الصحيح.
ففي السجون المصرية الآن يقبع كنز الثورة الاستراتيجي، آلاف الشباب من تيارات فكرية مختلفة شاركت جميعها في ثورة الخامس والعشرين من يناير، ومنهم العشرات بل والمئات من أصحاب المبادرات، ومؤسسي الكيانات المدنية، التي تملك رصيدًا لا بأس به من المريدين الذين قد يشكّلون الشرارة الأولى لحراك قادم، كما أنهم – أقصد قيادات الحركات والكيانات من المعتقلين – يملكون فرصة أكبر للتواصل فيما بينهم وهم داخل السجون، تواصل يهدف أولًا للخروج من عباءة الماضي، ومد البصر والبصيرة لرصد أفق جديد.
آن الأوان ليفزع السجّان من السجين، آن الأوان حقًا لمراجعات فكريّة يتبنّاها المعتقلون الشبان من كل الأطياف، مراجعات تتجاوز مصلحة الكيان والحزب والتنظيم، مراجعات تكفي لتحريض الأمل في صدورنا نحن السائرون على الأسفلت، مراجعات تعالج القصور الذي تجلّى بعد الحادي عشر من فبراير 2011، والنابع من انعدام الرؤية المستقبلية لمصر الثورة، ذلك المستقبل الذي تُرك في يد نخبة فاجأتها الثورة تمامًا كما فاجأت النظام.
إن الجماعة الوطنية المُتخيَّلة، هي على غرار الجمعية الوطنية للتغيير في كونها جامعة لكل ألوان الطيف السياسي المصري، إلا أنها تختلف عنها في كونها تمتلك بداخلها ما تحمي به فكرة التغيير من تأثير عنصري المفاجأة والتنازع بين التيارات السياسية المنضوية تحت مظلتها، وذلك لأنها جماعة “شابّة” مُحرّضة على الثورة، مما يعطيها حق تمثيل الجماهير، ولأنها تملك تصوّرًا مُعلنًا لإدارة البلاد بعد زوال النظام الحالي، مما يُضعِف من احتمالات التشتت الناتج عن التكالب على الغنائم بعد إعلان النصر.
إن الجماعة الوطنيّة المتخيَّلة هي على غرار صفحة الفيسبوك الشهيرة التي أشعلت فتيل ثورة الخامس والعشرين من يناير، إلا أنها لن تكتب (الشعب يريد معرفة إيه النظام؟) بعد إطاحتها برأس النظام، بل ستستكمل عملها تمامًا كما خططت، مستعينة بملايين الشباب المُلهَمين المتّحدين تحت راية تعرف تمام المعرفة ما تريد، وما لا تريد.
أنا لم أجرب السجن – حتى الآن – ولم أجرب التوقيف أو التحرّي، وقد يكون جهلي بظروف الحياة في السجون ومدى قسوتها، قد سبب ما قد يراه البعض (مبالغة) فيما أنتظره من المعتقلين، أو ما أتمنى أن يصلوا إليه، ولكني أؤمن بأن الطاقات المُهدرة داخل السجن وخارجه قد ترتد على السجان إن نحن أعدنا توجيهها بشكل سليم. إن النظام الحالي قد يؤتى من مأمنه، وما مأمنه سوى تلك السجون، وما اعترانا من تفرّق بعد وحدة.
المصدر
تعليقات