هل سيحظى الإسلام بإصلاحه الخاص؟



في الأسبوع الماضي، في خطابه السنوي، صلى البابا فرانسيس من أجل ضحايا الدولة الإسلامية في سوريا والعراق. كانت صلاته لكل من المسيحيين والمسلمين ضحايا عنف الجهاديين تحية مناسبة لأحد أكثر الجوانب الكئيبة في عام 2014. ولكن كلمات البابا أظهرت أيضًا تناقضًا صارخًا بين التواضع الواضح للفاتيكان - عودة للجانب الجيد من روتين البابا الطيب/البابا الشرير الممتد كما يبدو لعقود - وبين وحشية الخلافة المعلنة حديثًا.
أدى هذا التناقض ببعض المراقبين (بيل ماهر على سبيل المثال) إلى إعلان أننا يجب أن نتوقف عن اللياقة السياسية ونقر بالأمر الواضح: الإسلام سيظل عالقًا في العصور الوسطى. وحتى أولئك الذين وجدوا أن هذه الصيغة وقحة للغاية ما زالوا يحاولون شرح لماذا يبدو أن الكثير من الدول الغربية توصلت لكيفية فصل الكنيسة عن الدولة، في حين ما تزال الدول الإسلامية من المملكة العربية السعودية إلى مصر إلى تركيا مستمرة في المقاومة.
 أحد أكثر التفسيرات استمرارًا هو أن العالم الإسلامي يحتاج حقًا إلى إصلاح خاص به، إلى مارتن لوثر يأخذ دين محمد إلى الحداثة. إنها جدلية طرحها توماس فريدمان وكثيرون غيره يطرحونها منذ أكثر من عشر سنوات. في العام الماضي فقط أضيف فتح الله كولن وعبد الفتاح السيسيإلى القائمة القصيرة للمرشحين لأن يكونوا مارتن لوثر. ويبدو أن العديد من المحللين والنقاد للإسلام ملتزمون بفكرة أنه من بين واعظ تركي منعزل أو جنرال مصري مستبد سيأتي أحدهم ليزيل الالتباس بين الكنيسة والدولة في العالم الإسلامي، ويساعد الإسلام في النهاية على الانتقال من الشمولية الأصولية إلى الدين الليبرالي المستنير، من أبي بكر البغدادي إلى البابا فرانسيس.
ولكن قبل أن يبدأ المراقبين الغربيين في تطبيق دروس التاريخ الأوروبي على العالم الإسلامي، يجب أن يقوموا بقليل من التأمل الذاتي. ألم يكن الإصلاح الديني هجومًا على الكنيسة الكاثوليكية؟ ألم يكن مارتن لوثر، الرجل الذي بدأ الإصلاح هو من كتب ذات مرة كتابًا بعنوان "ضد البابوية الرومانية: مؤسسة من عمل الشيطان"؟ في الواقع، في كل مرة يحدد كاتب غربي مارتن لوثر إسلاميًا، يبرز سؤال بلا حل عن المجتمع الغربي نفسه: هل العالم المسيحي الحديث اليوم انتصار للبروتستانتية على البابا؟ أم هو انعكاس لجوهر أكثر علمانية للمسيحية، متأصل في البروتستانتية والكاثوليكية على حد سواء؟
لا هذا ولا ذاك. لقد نتجت الثقافات السياسية المختلفة في البلدان المسيحية والإسلامية التي نناقشها اليوم من تاريخ معقد، مسار ملتو يقدم القليل من الدروس البسيطة أو المقنعة. في معظم التاريخ الأمريكي، يمكن أن يكون بديهيًا لغالبية الأمريكيين البروتستانت أن الفصل الشهير بين الكنيسة والدولة أصبح ممكنًا فقط بسبب الإصلاح البروتستانتي الذي طوَّع الفاتيكان في القرن الـ16. ترى الغالبية الكاثوليكية كدين للقرون الوسطى على خلاف مع التقاليد الأنجلو أمريكية للديمقراطية العلمانية. بعد فترة وجيزة من إعلان الواعظ جوناثان مايهو "أن البابوية والحرية تتعارضان"، كما أعلن الكونغرس القاري الشهير أن الكاثوليكية تنشر "المعصية والتعصب والاضطهاد والقتل والتمرد في كل جزء من العالم".
كان التوجه الأمريكي المضاد للكاثوليكية وقحًا بكل تأكيد ولكن ليس دون سبب تمامًا. ففي المجمل لم يقدم الفاتيكان صورة تقدمية عن نفسه في ذلك الوقت. أعلن قادة الكنيسة بفخر معارضتهم إلى الجوانب الأساسية للديمقراطية، مثل التصويت. وعلى سبيل المثال، أصدر البابا بيوس التاسع منشورًا شهيرًا في عام 1864 يسمّى "منهج الأخطاء" يدين الليبرالية وحرية الضمير والتقدم ضمن أمور أخرى.
في هذه الأيام، على الرغم من أن معظم البروتستانت قد يتفقون أن البابا فرانسيس رجل لطيف للغاية، وبالتأكيد لا يشكل تهديدًا للديمقراطية. إن البابا - هذا البابا تحديدًا - مع التقدم وربما مع التطور الآن. إذن، ماذا حدث؟
بالنسبة لماضي أوروبا في أغلبه، الشيء الوحيد الذي اتفقت عليه الكنيسة مع نظرائها الملكيين أن الكنيسة والدولة يجب أن يكونوا متحدين. إنهم فقط يختلفون حول من يحمل مقاليد الأمور. في الواقع، إذا كان هناك شيء قد جعل الكنيسة والدولة منفصلتين، فهو الصراع على السلطة بين المعسكرين.
مع فقدان الإمبراطورية الرومانية سيطرتها على أوروبا خلال الألفية الأولى، حافظ البابا على سيطرته على الكنيسة (وعلى ممتلكاتها الواسعة) في جميع أنحاء الأراضي الرومانية السابقة. وكثيرًا ما أدت سلطة البابا الدنيوية إلى صراع مع ملوك أوروبا. وعندما حاول هؤلاء الحكام الاستيلاء على أرضي الكنيسة أو تعيين أساقفة، استدعت الكنيسة الكاثوليكية حلفاءها ومواردها المهمة كي تقاوم. وضع هذا الصراع بعض أقوى حكام أوروبا - شارلمان، العديد من أباطرة رومانيا المقدسين، والملك فيليب الرابع ملك فرنسا - ضد البابا حول مسألة ما إذا كان على الملوك اختيار الباباوات أم ينبغي على الباباوات اختيار الملوك. أراد الطرفان لعب دور "الخليفة"، بسلطة روحية ودنيوية مشتركة لازمة لهذا الدور. ولكن لأن الكنيسة والدولة كانتا تعتمدان كل منهما على الأخرى للحصول على الشرعية، لم تستطع أي منهما على مدى قرون أن تكون لها اليد العليا بشكل دائم.
أعطى الإصلاح البروتستانتي أخيرًا ملوك أوروبا مثل هنري الثامن التبرير الديني لتوحيد الكنيسة والدولة تحت سلطتهم بدلًا من الفاتيكان. في الواقع، فضّل البروتستانت طويلًا فصل الكنيسة عن الدولة فقط، إذ كانت الكنيسة موضع المساءلة هي الكنيسة الكاثوليكية؛ في عام 1534 عندما انفصل الملك هنري الثامن عن الفاتيكان، جعل من نفسه رئيسًا للكنيسة الإنجليزية المعلنة حديثًا. وفي إحدى روايات التاريخ، التي وضعتها بعد ذلك أجيال من المؤرخين البروتستانت، كان ذلك انتصارًا للعلمانية. الدولة التي يمثلها الملك هنري قد حررت نفسها من الكنيسة التي يمثلها البابا في روما.
ولكن لا يبدو أن أحدًا يدعو إلى هنرى الثامن في العالم الإسلامي الذي يعيد اختراع المجتمع المسلم، وليس هذا فقط لأن الملك لديه ميل لقطع الرؤوس. لا يمكن التهرب من حقيقة أن هنري قد حول انجلترا من الناحية الفنية إلى دولة ثيوقراطية. أعلن الملك نفسه قائدا سياسيًا ودينيًا أعلى لإنجلترا، وهو بالضبط الدور الذي يتصوره الإسلاميين للخليفة. (وحتى هذا اليوم، تتنافس الملكة إليزابيث مع الدالاي لاما على لقب أكثر الثيوقراطين المحبوبين في العالم).
ساعد توحيد الكنيسة مع الدولة في ظل حكم الملوك البروتستانت مثل هنري الثامن في تسهيل الوصول إلى العلمانية الحديثة، لأن هؤلاء الحكام كانوا جادين بشأن سلطتهم الجديدة التي حصلوا عليها أكثر من اهتمامهم بسلطتهم الدينية. كانوا يريدون أن تصبح بلدانهم غنية وقوية. وفي مهامهم الدينية الجديدة كانوا يلوون عنق الأحكام الدينية من أجل تحقيق أهداف دنيوية. وكما أصبحت الدول الأوروبية غنية وأكثر استقرارًا، وأكثر قوة على مر القرون التي تلت ذلك، أصبحت ثقافتهم السياسية أكثر ليبرالية وديمقراطية. واستمر الدين مع وجوده في أيدي الملوك البروتستانت. الملكة إليزابيث التي يفوقها ثقلًا البرلمان المنتخب وأجيال من الدستور الإنجليزي، لم تعد تستطيع استخدام سلطتها الإنجيلية، لتأييد استعباد سجناء الحرب مثلًا، كما فعلت الدولة الإسلامية في الآونة الأخيرة. وباختصار إنها ليست من نوع الخلفاء الذين تريدهم الدولة الإسلامية.
تطورت العلاقة بين الكنيسة والدولة بشكل مختلف في البلدان التي بقت كاثوليكية، مثل فرنسا وإيطاليا، وبدلًا من أن يصبحوا قادة جدد للكنائس، سعى القادة الثوريون اللاحقون مثل روبسبير في فرنسا أو جاريبالدي في إيطاليا إلى إلغاء المؤسسات الكاثوليكية تمامًا. وقامت الثورة الفرنسية على سبيل المثال، بمصادرة أراضي الكنيسة وحظرت الأوامر الرهبانية، وأجبرت الكهنة على القسم على الدستور المدني ( وبطبيعة الحال تخلل ذلك العديد من قطع الرؤوس) وأصيب البابا والمخلصون له بالرعب لأسباب مفهومة، وقضت الفاتيكان معظم القرن الـ19 على هامش السياسة، رافضة التعامل مع الأنظمة العلمانية في أوروبا.
وفي بدايات القرن العشرين، اعترفت الكنيسة الكاثوليكية متأخرًا بأن قبولها الأولوية الجديدة للدولة عليها وحتى بعض من أيدولوجيتها الليبرالية كان الثمن للبقاء على صلة بالعصر. ومع الاتفاق
بين الفاتيكان والدولة الإيطالية في عام 1929، أصبح للمؤمنين الحق في التصويت في الانتخابات المدنية دون الخوف من غضب الكنيسة. وبمعنى آخر، مكنت مثل هذه التوافقات كل من الكنيسة والدولة في التلاقي في منتصف الطريق، كما وضعت الحكومات في فرنسا وإيطاليا أيضًا الأساس لوضع أوروبا في الوقت الحاضر من خلال السماح للفاتيكان باستعادة بعض قوته وممتلكاته السابقة.
ويعتبر تاريخ تقدم العلمانية في الدول البروتستانتية والكاثوليكية بمثابة تذكير بكيفية تأثير السياسة والظروف في تشكيل الدين، وطرق تطبيقه في المجتمع، أكثر بكثير من تأثير أصول الدين المجردة. وتستطيع هذه العوامل تغيير العقيدة بشكل كبير حتى في الوقت الذي يظل فيه الكتاب المقدس (الوحي) كما هو. ولا يصمد الادعاء بأن هناك شيئًا علمانيًا أو إنسانيًا في طبيعة المسيحية أمام تاريخ 250 من الباباوات الذين قرأوا نفس الكتاب المقدس الذي قرأه فرانسيس ووصلوا إلى استنتاجات مختلفة تمامًا فيما يخص دور الكنيسة في المجتمع.
ولكن إذا كان الفصل بين الكنيسة والدولة هو شيء سياسي فقط ولا علاقه له بأصول الدين، فيبدو اليوم أكثر أهمية أن نسأل أيًا  من التجارب السياسية السابقة من التاريخ الغربي تقدم النموذج الأفضل للعالم الإسلامي. هل الحل ليس هنري الثامن مسلم وإنما روبسبير؟
احتمال بعيد. الإجابة الحقيقية هي أنه لا يوجد طريق واحد واضح ومجرّب تاريخيًا نحو العلمانية الحديثة. وبأخذ مثال واحد فقط: النهج الثوري الفرنسي في التعامل مع الكنيسة والذي كان مثالًا لأشهر الدول المعلمنة في العالم الاسلامي، نموذج مصطفى كمال أتاتورك في تركيا. فقد رأى أتاتورك المؤسسة الدينية الإسلامية بوصفها قوة العدو - تمامًا مثلما رأت الثورة الفرنسية الفاتيكان - العدو الذي كان لا بد من هزيمته.
فقد قام بمصادرة أموال المؤسسات الدينية وحظر الجماعات الدينية. وقد كان ملتزمًا بتدريس التاريخ الأوروبي من وجهة نظر معادية للكاثوليكية، مستوحاة من التحيز البروتستانتي وعلمانية الثورة الفرنسية، فحتى اليوم أخبرني عدد مذهل من خريجي المدارس الثانوية التركية بأنهم على قناعة بأن المسيحيين الجدد هم البروتستانت بينما المسيحيين المتأخرين هم الكاثوليك.
ولكن يمكن لأي شخص كان أن يتابع أخبار تركيا على مدى العقد الماضي أو نحو ذلك لاستنتاج أن نهج أتاتورك لم ينجح تمامًا بعد مرور قرن من الزمان. فمازلت السياسة التركية منقسمة بشكل واضح بين هؤلاء الذين يعتقدون بأن البلد علمانية أكثر من اللازم وهؤلاء الذين يشتكون من أن البلد لم تعد علمانية بما يكفي.
وإذا كان أتاتورك نفسه لم يستطع فعل ذلك، فهل هناك أي أمل في خلق توافق بشأن دور الدين في الحياة العامة بما يكفي لتسهيل الديمقراطية الليبرالية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة؟ أو على الأقل بما يكفي لكبح شيء من العنف الذي رأيناه في ٢٠١٤؟ وبالنظر بتفاؤل للعام الجديد، يوجد درس واحد من آلاف السنين من الصراع بين الكنيسة والدولة في أوروبا، هو أنه حتى بدون اتباع أي نموذج بعينه، فالدول الاسلامية يمكنها النجاح في البدء في مسارات خاصة بها، تمامًا كما استطاع الفاتيكان فعل ذلك حتى بدون مارتن لوثر كاثوليكي خاص به.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماهي السادومازوشية فلسفياً ونفسياً؟

" منتصف آيار " .. غسان كنفاني

متن الأربعين النووية