جيش المليون جندي وإعلام الجندي الواحد

(القصة الأولى)

“كان الملازم جيمي مونتيث أحد أفراد الفرقة الأولى في الجيش الأمريكي التي كانت تعرف باسم “الفرقة الكبيرة الحمراء”، وهي فرقة خاضت معارك في الجزائر وإيطاليا قبل أن تتلقى الأوامر بالانتقال إلى إنجلترا تمهيدا ليوم إنزال الحلفاء على شاطئ نورماندي.
وأثناء الهجوم، الذي فتح الباب أمام الحلفاء لتحرير فرنسا من الحكم النازي والانتصار على هتلر، وبالتحديد على شاطئ أوماها الذي استقبل الإنزال الأمريكي الأكبر، انكشفت الوحدة التي يقودها مونتيث عندما أعاقت الرمال ومد البحر الدبابات المصاحبة لها.
وكان مونتيث قد قاد رجال وحدته البالغ عددهم 51 فردا في المياه للهجوم على الشاطئ، لكن المدافع الآلية الألمانية التي كانت ترقب المشهد من داخل دشم حصينة حصدت أرواح نصفهم على الأقل قبل أن يصلوا إلى الشاطئ.
وتكفلت الألغام والعوائق وقذائف المدفعية بقتل أكثر من ألف جندي أمريكي في الموجة الأولى للإنزال، وتمكن الناجون من الوصول بمعجزة إلى حافة التلة التي ترتكز عليها الدشمة الخرسانية الحصينة التي لم تؤثر فيها ضربة الطيران الأولى التي سبقت الإنزال، والتي ألقى فيها الحلفاء ما يزيد على أربعين ألف طن من القنابل.
وبين هذا الجرف الصخري ومد البحر المتزايد في هذا اليوم، حوصر جنود قتل رفاقهم وأصيب منهم من أصيب، وضاق الساحل المنبسط من مئتي متر إلى أقل من عشرة أمتار بفعل المد.
عندها وقف مونتيث واضعا سيجاره في فمه وتقدم على قدميه ليبث الروح من جديد في الجنود الباقين، وكلهم من صغار السن الذين لا خبرة لهم في القتال. وتمكن مونتيث بشجاعته الفائقة وإقدامه من جمع الجنود الباقين على طرف تلة تتمركز فوقها قوة ألمانية صغيرة، وكان قراره هو ضرورة الصعود إلى التلة والسيطرة عليها.
وأتبع مونتيث هذا القرار بالتقدم بنفسه دون غطاء نحو التلة حاملا مسدسه في يده ومنطلقا نحو القوة الألمانية، وشجعت جرأته الجنود الصغار على الاشتباك حتى تمكنوا من السيطرة على الموقع.
واستمرت الفرقة الصغيرة في تقدمها حتى حاصرتها قوات العدو حصارا كاملا، حيث تلقى مونتيث رصاصة قتلته قبل شهر من بلوغه السابعة والعشرين.”
انتهت قصة مونتيث.. وخلاصتها أن ملازما أمريكيا قام بدوره الطبيعي في ظروف صعبة نسبيا ومات أثناء تأديته لواجبه.
لكن الملفت للنظر هو أن القصة وصلتنا بهذا القدر من التفاصيل التي تعمدت أن أسردها كما وجدتها على موقع من مواقع وزارة الدفاع الأمريكية على الإنترنت.. الملفت أن هذا الجندي الذي تقدم بزملائه مسافة مئة متر تقريبا ثم فشل هجومه تحول إلى واحدة من الأساطير المكونة للقوة العسكرية الأمريكية في أذهان العالمين.. تحولت قصة جندي واحد – مع كامل الاحترام يعني بس عادي – إلى مادة إعلامية فعالة صدرها الجيش الأمريكي إلى المواطن الأمريكي، وإلى كل مواطن في العالم من خلال مئات المقالات وعشرات الأفلام التسجيلية وفيلما روائيا هوليووديا واحدا على الأقل شاهدته عن هذا الجندي وحده!

(القصة الثانية)

“عندما وقع الهجوم الإرهابي على الكتيبة 101 في المنطقة الأمنية بحي السلام في العريش، وبعد إطلاق قذائف الهاون على قاعدة الكتيبة فجر المهاجمون سيارات مفخخة استهدفت القاعدة مع أهداف أخرى في المدينة.
وشاهد المجند الشحات فتحي شتا إرهابيا يرتدي حزاما ناسفا يتجه إلى مركز القاعدة. وحاول المجند الدفاع عن كتيبته وزملائه باحتضان الإرهابي ودفعه بعيدا لمسافة مئة متر اضطر عندها الإرهابي إلى تفجير نفسه لتتناثر جثته وجثة الشحات بفعل القنبلة.”
انتهت القصة الثانية وخلاصتها أن جنديا قدم أسمى معنى للفداء في الدفاع عن موقعه وزملائه، ونجح في مهمته ولم يبخل بحياته ثمنا لهذه المهمة.
لكن الملاحظة المؤلمة أن القصة الأولى تحمل تفاصيل دقيقة أهلت البطولة العادية لأن تتحول إلى أسطورة من أساطير العسكرية، بينما لا تحمل الثانية ما يكفي من التفاصيل ما يجعلها تصلح حتى أن تكون قصة صحفية من أربعة أسطر.
بشكل القصة الأولى وبالتعامل الإعلامي معها، بنى الجيش الأمريكي أسطورة القوة العظمى ذات الجيش الذي لا يضم إلا الأبطال، وبشكل القصة الثانية يفشل جيشنا في مواجة أكاذيب الأدعياء والمدعين بأنه “جيش المكرونة والكفتة”!!
دفعت أمريكا بمليون جندي تقريبا إلى أتون حرب تحرير أوروبا، وخسرت منهم مئات الآلاف.. لكن حربها الإعلامية قامت على تمجيد الفرد المقاتل والقصص الشخصية والبطولات الاستثنائية.. قامت على قصة الجندي الواحد.
لقد دمر الجنود المصريون في حرب أكتوبر 32 نقطة حصينة كل واحدة منها أكثر تحصينا وقوة من دشمة شاطئ أوماها التي فشل مونتيث وجنوده في احتلالها.. ووراء كل نقطة حصينة من تلك النقاط عشرات القصص البطولية الفردية التي يستحق كل منها آلاف المقالات ومئات الأفلام التسجيلية وعشرات الأفلام الروائية.. فهل من كاتب؟ هل من منتج؟ هل من فكرة؟ أم ستظل هذه الحرب أسيرة لفيلم مأخوذ عن رواية رمزية قام ببطولتها محمود يس الذي ما زالت الرصاصة في جيبه حتى اليوم؟

Source Link

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماهي السادومازوشية فلسفياً ونفسياً؟

" منتصف آيار " .. غسان كنفاني

متن الأربعين النووية