لماذا تورطنا مع المالكي، وخسرنا العراق؟
كي نفهم لماذا ينهار العراق، يجب علينا أن نفهم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الذي تدعمه الولايات المتحدة منذ العام 2006.
أعرف المالكي، أو "أبو إسراء" (كما يكنيه القريبون منه) منذ
ما يزيد على عقد من الزمان. سافرت معه حول ثلاث قارات، وأعرف عائلته
والدائرة الصغيرة من المقربين منه. منذ كان المالكي عضوًا مغمورًا في
البرلمان، كنت واحدًا من الأمريكيين القليلين جدًا ببغداد الذين استقبلوا
مكالماته الهاتفية. ففي العام 2006، ساعدت في تقديمه للسفير الأمريكي،
مزكيًا إياه كخيارٍ واعدٍ لتولي منصب رئاسة الوزراء. وفي العام 2008، كنت
من رتّب أمر نقله للعلاج بالخارج عندما سقط مريضًا. صاحبته في رحلة العلاج
بلندن، قاضيًا معه ثماني عشرة ساعة يوميًا، في مستشفى ويلنجتون. في العام
2009، كنت أحثّ الدول الملكية المجاورة، والتي كانت متشككة في البداية، على
دعم حكومة المالكي.
على الرغم من ذلك، بحلول العام 2010، تغيّر موقفي، وكنت أحث
نائب رئيس الولايات المتحدة، وكبار موظفي البيت الأبيض، على سحب تأييدهم
للمالكي. فقد وصلت لقناعةٍ أنه إذا ما بقي في منصبه، سيؤسس حكومة انقسامية
واستبدادية يمكنها أن تمزق البلاد، وتهدد المصالح الأمريكية.
لقد توّرطت أمريكا مع المالكي، وها نحن الآن نواجه هزيمة استراتيجية في العراق، وربما في الشرق الأوسط كله.
البحث عن قائد
"أبو إسراء"، الذي ولد بقرية طويريج التابعة للمدينة العراقية
المقدسة كربلاء، يفخر بأنه حفيد زعيم قبلي ساعد في إنهاء الحكم الاستعماري
البريطاني بعشرينيات القرن التاسع عشر. نشأ في أسرةٍ شيعية متدينة، وتربى
على كراهية حكم الأقلية السنية بالعراق، لا سيما حزب البعث العلماني ذي
السياسات القمعية. انضَّم المالكي في شبابه لحزب الدعوة الديني، مؤمنًا
بدعوته لإقامة دولة شيعية في العراق بكل الوسائل الممكنة. على إثر صدامات
بين البعثيين العلمانيين من السنة والشيعة والمسيحيين من جانب، والجماعات
الشيعية الإسلامية (بينها حزب الدعوة) من جانب آخر، حظرت حكومة صدام حسين
عمل الحركات المتصارعة، وجعلت الانضمام لإحداها جريمة عقوبتها الإعدام.
تم القبض على الآلاف من أعضاء حزب الدعوة وتعذيبهم وإعدامهم،
بتهمة أنهم امتداد لرجال الدين الإيرانيين، وعملاء لأجهزة الاستخبارات
الإيرانية. لم تُسلّم العديد من جثث ضحايا التعذيب المشوهة لذويها. وكان
بعض أقرباء المالكي المباشرين من بين هؤلاء الذين قتلوا، مساهمين بذلك في
تشكيل نفسية رئيس الوزراء المستقبلي.
على مدى ثلاثة عقود، انتقل المالكي بين إيران وسوريا حيث نظّم
عمليات سرية ضد نظام صدام حسين إلى أن أصبح رئيس فرع حزب الدعوة العراقي
بدمشق. وقد وجد الحزب راعيًا في الجمهورية الإسلامية الإيرانية تحت قيادة
آية الله الخميني. خلال الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات، استخدمت
العراق أسلحة كيماوية زوّدها بها المعسكر الغربي، فردّت طهران باستخدام
عملاءً من إسلاميي الشيعة لمعاقبة مؤيدي نظام صدام. في العام 1981، وبدعم
من إيران، فجّر فدائيو "حزب الدعوة" السفارة العراقية ببيروت، في واحدة من
أولى العمليات الانتحارية بتاريخ الحركات الإسلامية المتطرفة. كما فجّروا
أيضًا السفارتين الأمريكية والفرنسية بالكويت، وخططوا لقتل الأمير الكويتي.
وقد أدّى الفشل الذريع لعشرات مخططات الاغتيال لكبار أعضاء حكومة صدام،
بما في ذلك صدام نفسه، إلى العديد من الاعتقالات وأحكام الإعدام.
عاد المالكي إلى وطنه خلال الأشهر المضطربة التي أعقبت الغزو
الأمريكي للعراق عام 2003، وعمل مستشارًا لرئيس الوزراء المستقبلي إبراهيم
الجعفري، وفيما بعد، لكونه عضوًا في البرلمان، رأس لجنةً لدعم مهمة اجتثاث
حزب البعث، وهي منظمة تم الاحتفاء بها بشكل خاص من قبل إسلاميي الشيعة
كأداة للثأر والانتقام، وانتُقِدَت علنًا من قبل السنة باعتبارها وسيلةً
للقمع.
تطوّعتُ للخدمة في العراق بعد مشاهدة مأساة 11 سبتمبر من قاعة
مؤتمرات حاكم تكساس. أُرسِلتُ إلى بغداد، وأنا ابن المهاجرين العراقيين،
من قبل مكتب وزير الدفاع في مهمةٍ مدتها ثلاثة أشهر، استمرت في نهاية
المطاف لما يقارب العشرة أعوام. كمساعدٍ خاص للسفير الأمريكي باتريك كنيدي،
وكحلقة الوصل بين سلطة التحالف المؤقتة ومجلس الحكم العراقي، وباعتباري من
المسؤولين الأمريكيين القليلين الذين كانوا يتحدثون العربية، أصبحت الرجل
الذي يذهب إليه القادة العراقيون في كل شيء تقريبًا (الأسلحة المزودة من
قبل الولايات المتحدة، والسيارات، والمنازل، وممرات الوصول للمنطقة الخضراء
التي كانت مطمعًا كبيرًا).
بعد انتهاء الاحتلال الأمريكي الشكلي عام 2004، بقيت في بغداد
لتسهيل عملية الانتقال لوجود أمريكي دبلوماسي بشكل طبيعي، وكثيرًا ما كنت
أشارك الأصدقاء العراقيين في البرلمان الانتقالي احتساء الشاي مع البسكويت.
كان المالكي واحدًا من هؤلاء الأصدقاء. وكان يسألني عن المخططات الأمريكية
لمنطقة الشرق الأوسط، ويطلب زيادة ممرات العبور للمنطقة الخضراء. كانت هذه
الأيام المبكرة مرهقة، إلا أنها كانت مرضية إذ عمل الأمريكيون والعراقيون
معًا ليساعدوا البلاد في التخلص مما تبقى من نظام صدام.
بعد ذلك وقعت الكارثة. خلال فترة الجعفري القصيرة، زادت حدة
التوترات العرقية الطائفية بشكل كارثي. دبّر قادة الشيعة الإسلاميون الجدد،
الذين كانت تجاوزات نظام صدام لا تزال ماثلة بأذهانهم، مخططات انتقامية ضد
السنة، أسفرت عن حلقات مرعبة من
التعذيب والاغتصاب، وغيرها من الانتهاكات. كذلك بدأ أعضاء حزب البعث
المعزولون عصيانًا دمويًا، في نفس الوقت الذي جنّد فيه تنظيم القاعدة
شبانًا لتنفيذ عمليات انتحارية، وتفخيخ سيارات، وعمليات خطف، وغيرها من
الهجمات الإرهابية، في محاولةٍ لإثارة الفوضى.
بعد تفجير مسجد
الإمام العسكري، والذي يعد مزارًا مقدسًا لمائتي مليون من أتباع المذهب
الشيعي حول العالم، أطلق زعماء الشيعة الإسلاميون هجمات مضادة شرسة، مما
أشعل حربًا أهليةً أسفرت عن عشرات الآلاف من القتلى العراقيين الأبرياء.
رفض الجعفري في البداية المبادرات الأمريكية لفرض حظر التجوال بعد تفجير
القاعدة في سامراء، وأصر على حاجة المواطنين للتنفيس عن إحباطاتهم، فأجاز
فعليًا تجربة الحرب الأهلية والتطهير العرقي.
قررت واشنطن أن التغيير الفوقي بات ملحًا. بعد الانتخابات
البرلمانية في ديسمبر 2005، بحث مسؤولو السفارة الأمريكية عن زعيم من
النخبة العراقية يمكنه دحر الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، ومحاربة
تنظيم القاعدة، وتوحيد العراقيين تحت راية وطنية وحكومة جامعة. كنت أنا
وزميلي جِفري بيلز من قلائل الأمريكيين الذين يتحدثون العربية وعلى علاقات
جيدة مع رموز قيادية في البلاد. كان المالكي هو الرجل الوحيد الذي بدا أن
لديه فرصة لكسب تأييد كل الفصائل العراقية، وبالتالي كان الأقرب ليكون
قائدًا ناجحًا. قلنا أنه سيكون مقبولًا لأغلب الإسلاميين الشيعة، والذين
يشكلون حوالي 50 بالمائة من السكان، كما أنه مجِّدٌ في عمله، وحاسم، ونظيف
اليد لا يشتبه بفساده، وفوق ذلك، كان سياسيًا ضعيفًا، الأمر الذي يلزمه
بالتعاون مع القادة العراقيين الآخرين لإقامة تحالف سياسي. وبرغم أن تاريخ
المالكي معروف بغموضه وعنفه، إلا أن هذا الأمر لم يكن عجبًا في العراق
الجديد.
أقنعنا، أنا وبيلز وزملاء آخرون، سفير الولايات المتحدة زلماي
خليل زاد بمحدودية الخيارات، وهو بدوره أقنع قادة العراق الوطنيين
المتشككين (وإن كانوا في الوقت نفسه يائسين من الوضع) بدعم المالكي. في
البداية كان المالكي، الذي يقود كتلة صغيرة من البرلمانيين، مندهشًا من
الإلحاح الأمريكي، إلا أنه استغل الفرصة وأصبح رئيسًا للوزراء في 20 مايو
2006.
ثم تعهد المالكي بأن يقود عراقًا قويًا وموحدًا.
"لن يكون هناك عراق"
وجد المالكي، الذي لم تكن خبرته تتجاوز العمل السري المسلح
لحزب شيعي إسلامي، أن سنواته الأولى في الحكم تشكّل تحديًا كبيرًا. فقد
عاني في مواجهة العنف، الذي أودى بحياة الآلاف وأسفر عن نزوح وتشريد
الملايين، ومن انهيار صناعة النفط، ومن الشركاء السياسيين المنقسمين
والفاسدين −علاوةً على وفود الكونجرس الأمريكي نافذة الصبر. في ذلك الحين،
كان المالكي هو الحاكم الفعلي للعراق، ولكن مع زيادة القوات الأمريكية في
العام 2007، ووصول السفير رايان كروكر والجنرال ديفيد بترايوس لبغداد، بات هناك شكٌ في معرفة المسؤول الفعلي عن حماية الدولة العراقية من الانهيار.
كان كروكر وبترايوس يلتقيان مع رئيس الوزراء عدة ساعات
يوميًا، لمدة عامين تقريبًا. بعكس منافسيه، سافر المالكي قليلًا خارج
البلاد، وكان يعمل ست عشرة ساعة يوميًا بانتظام. كنا ننسق سياسيًا
واقتصاديًا وعسكريًا، آملين في تجاوز العقبات التشريعية وتعزيز النمو
الاقتصادي، بينما نتعقب مخربي القاعدة والبعث والميليشيات الشيعية.
باعتباري المساعد الخاص لكروكر، كان دوري المساعدة في تجهيزه، ومصاحبته
للاجتماعات مع القادة العراقيين، وغالبًا ما كنت أقوم بدور المندوب عنه حين
يختلف العراقيون فيما بينهم. كانت الولايات المتحدة مضطرة للقيام بدور
الوساطة بين العراقيين لأننا شعرنا أن البلاد ستكون مستقرة فقط بقيادة
موحدة ومتماسكة، مدعومة بقوةٍ تتصدى لعنف المتطرفين.
كانت حركة الصحوة واحدة من أهم التطورات في هذه الفترة، فبفضل
مفاوضات طويلة، قرر المتمردون من القبائل العربية السنية والبعثيين تحويل
بنادقهم بعيدًا عن القوات الأمريكية، وتوجيهها للقاعدة، وبذلك اندمجوا مرةً
أخرى في العملية السياسية العراقية. في البداية اعترض المالكي على تسليح
وتمويل المقاتلين السنة، إلا أنه رضخ أخيرًا بعد ضغوط كروكر وبترايوس،
ولكنه اشترط أن تتحمل واشنطن المسؤولية كاملة. لاحقًا وافق على توظيف
وتمويل بعض مقاتلي القبائل، إلا أن كثيرًا من وعوده لم تنفذ فيما
بعد −فقد تركهم عاطلين عن العمل وحانقين وعرضةً للتطرف مرةً أخرى.
بحلول عام 2008، كان المالكي يتقدم في عمله، فبالهدوء الذي
ساد النصف الشمالي للبلاد، أصبح موقعه في السلطة أكثر استقرارًا. كان يلتقي
أسبوعيًا مع الرئيس الأمريكي جورج بوش عبر مؤتمرات الفيديو. وكانت مجموعة
صغيرة منا تجلس وتتابع بهدوء أمام الشاشة هذه اللقاءات الحميمية، التي كان
المالكي عادةً يشكو فيها من البرلمان المعارض، ومن عدم امتلاكه لصلاحيات
دستورية كافية، بينما كان ينصحه بوش بالصبر، مشيرًا لأن التعامل مع
الكونجرس الأمريكي ليس سهلًا أيضًا.
بمرور الوقت، عمل المالكي على صياغة تسويات مع خصومه
السياسيين، ووقّع عقودًا بمليارات الدولارات مع شركات متعددة الجنسيات
للمساعدة في تحديث العراق. في غمار الحرب الأهلية، كان قليلٌ منا يأمل في
مستقبل جيد للعراق، وبعد عام واحد، بدأت الاضطرابات في الاشتعال مرة أخرى،
وبدا أن البلاد تعود للمسار السابق من جديد.
لم يساعدنا تعامل المالكي مع الأمور، فعقودٌ من مطاردة أجهزة
استخبارات نظام صدام جعلته يفكر دائمًا بالمنطق التآمري، وكان مقتنعًا بأن
خصمه الشيعي الإسلامي مقتدى الصدر يسعى لتقويض مكانته. لذا قرر المالكي
الانقضاض على موكبه في مارس 2008، وأدخل الجيش العراقي في معركة أمام جيش
المهدي (جيش مقتدى الصدر) في البصرة. اختار المالكي الدخول في معركة مع
ميليشيا مدعومة من إيران أحرجت الجيش الأمريكي منذ العام 2003، بلا تخطيط
ولا خدمات لوجيستية واستخباراتية، وبغير غطاء جوي أو دعم سياسي من قادة
العراق الآخرين.
بقينا في مكتب السفير الأمريكي -كروكر وبترايوس ومساعده وأنا-
لعدة ساعات، نمعن النظر في الخيارات السياسية والعسكرية الممكنة للخروج من
الأزمة، وكنا على اتصال دائم بالمالكي ووزرائه في البصرة. خشينا أن يتم
اقتحام المقر الميداني للمالكي، ومن ثم اغتياله، كما هو شائعٌ في العراق
للانقضاض على السلطة. أجريتُ اتصالاتٍ مع قادة الطوائف العراقية؛ السنية
العربية والشيعية العربية والكردية، وأخذ كروكر يحثهم على إعلان وقوفهم مع
المالكي. كما أرسل الجنرال بترايوس عميدًا عسكريًا إلى البصرة لقيادة قوات
العمليات الخاصة الأمريكية في مواجهة جيش المهدي. لأيام عدة، استقبلت
مكالماتٍ من المساعد الخاص للمالكي، قاطع الرقابي، الذي حاول دفع الغارات
الجوية الأمريكية لتسوية بنايات كاملة في المدينة بالأرض، ولكني ذكّرته بأن
الجيش الأمريكي لا يستخدم القوة بشكل عشوائي كما هو الحال مع جيش المالكي.
رغم ذلك كله، انتصر المالكي في معركة البصرة، التي أطلق عليها
صولة الفرسان. للمرة الأولى في تاريخ العراق، استطاع رئيس وزراء شيعي
إسلامي هزيمة ميليشا شيعية إسلامية مدعومة من إيران. تم الترحيب بالمالكي
في بغداد وحول العالم، والنظر إليه كبطل قومي، وأُثني عليه بشدة عندما عقد
العزم على تحرير مدينة الصدر ببغداد من جيش المهدي خلال أسابيع. في واحدٍ
من اجتماعات مجلس الأمن القومي العراقي -حيث كان كروكر وبترايوس بين
الحضور- عنّف المالكي بشدة قاداته العسكريين الذين أرادوا مهلة ستة أشهر
للتحضير للهجوم. أتذكر أنه قال لي: "لن يكون هناك عراقٌ بعد ستة أشهر!"
مدعومًا بانتصاراته في البصرة، ومعتمدًا على المساعدات
العسكرية الأمريكية الكبيرة، أرسل المالكي حملة عسكرية لاستعادة مدينة
الصدر، موجهًا فرق الجيش العراقي بهاتفه المحمول. خلال أسابيع، تم القضاء
على العشرات من الخلايا الإسلامية الشيعية المسلحة المدعومة من إيران
بواسطة التنسيق الهائل بين الجيشين العراقي والأمريكي، والأجهزة
الاستخباراتية. ما حدث كان تقدمًا نوعيًا حقيقيًا: حملة مدنية عسكرية ناجحة
تعطي فرصةً للسياسيين العراقيين أن يتوحدوا، بعد القضاء على المجموعات
السنية والشيعية المسلحة التي كادت أن تودي بالبلاد إلى الهاوية.
صعود المالكي
بحلول الأشهر الأخيرة من العام 2008، أصبحت البنود الخاصة
باستمرار التزامات الولايات المتحدة تجاه العراق، والتي تم التفاوض بشأنها
بنجاح، من أولويات البيت الأبيض الملّحة. ولكن استحالة إبرام اتفاق واضح
قبل انقضاء فترة الرئيس بوش، بالتزامن مع انهيار الاقتصاد العالمي، أضعفا
من موقفنا.
من موقع متفوق، طالب المالكي ومساعدوه بكل شيء، تقريبًا بلا
مقابل. إذ ورّطوا الولايات المتحدة في اتفاق سيء يمنح العراق دعمًا
مستمرًا، بينما لا يعطي أمريكا ما هو أكثر من امتياز إهدار مواردها. عندما
أسترجع الأمر، أتصور أن مشاهد التماس المسؤولين الأمريكيين للمالكي كانت
فقط من أجل تغذية غروره الشخصي أكثر. في 13 فبراير 2009، تركت بغداد مع
كروكر، بعد تنظيم آخر رحلات بوش في العراق، والتي ألقاه فيها
أحد الصحفيين بالحذاء خلال مؤتمر صحفي نظمه المالكي للاحتفال بتوقيع
الاتفاقية المشتركة. بعد أكثر من ألفي يوم في الخدمة، كنت مريضًا، ومرهقًا
جسديًا وذهنيًا، لكني كنت آملًا في أن تكون التضحيات العظيمة التي قدمتها
الولايات المتحدة قد أتت بثمارٍ إيجابية.
بقدوم إدارة الرئيس أوباما التي تعهدت بإنهاء "الحرب الرعناء"
-هكذا أسماها أوباما- التي شنها بوش على العراق، ومع استمرار الاضطرابات
بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، استغل المالكي الفرصة. بدأ المالكي حملة
منظمة لتدمير الدولة العراقية، ليستبدلها بمكتبه الخاص وحزبه السياسي.
فأقال الجنرالات الأكفاء واستبدلهم بمن يكنون له الولاء شخصيًا. كما أرغم
رئيس مجلس القضاء الأعلى على منع بعض منافسيه من الترشح في انتخابات مارس
2010. بعد إعلان النتائج، خسر المالكي لصالح ائتلاف معتدلٍ موالٍ للغرب يضم
أهم المجموعات الطائفية والعرقية بالعراق، فأصدر القاضي قانونًا منح
المالكي الحق في تشكيل الحكومة، وهو ما جرّ البلاد إلى مزيدٍ من التوتر
والعنف.
كان ذلك يحدث في ظل فراغٍ للقيادة في السفارة الأمريكية
ببغداد. فبعد مرور شهرين بدون سفير أمريكي، وصل وريث كروكر في أبريل عام
2009، وحينها كنت في مهمة جديدة حول عواصم الشرق الأوسط مع بترايوس، الرئيس
الجديد للقيادة المركزية الأمريكية. إلا أن التقارير -التي كانت تأتي من
مسؤولين عراقيين وأمريكيين في بغداد- كانت مثيرة للقلق. فحين كانت القوات
الأمريكية تجود بدمائها، والأزمة الاقتصادية العالمية تتفاقم، كانت السفارة
تطلق حملة باهظة التكاليف لتجميل الساحات، وإنشاء حانة وملعب كرة قدم،
والانتهاء من تطوير حمام السباحة الأولمبي وملاعب كرة السلة والتنس
والبيسبول الموجودة سلفًا، في سفارتنا التي بلغت كلفتها مليار
دولار. استقبلت بشكل دوري شكاوى من مسؤولين عراقيين وأمريكيين بخصوص الروح
المعنوية المنخفضة في السفارة، وانهيار العلاقات بين الدبلوماسية
الأمريكية وقيادة الجيش، والتي كانت قوية جدًا في عهد كروكر وبترايوس،
وسببًا رئيسيًا في كبح نزعات المالكي السيئة، ومن ثم الحفاظ على توجه
العراق للأمام. وهكذا كانت دولة المالكي البوليسية تزداد قوةً يومًا بعد
يوم.
في اجتماعٍ مع وفدٍ من أعضاء مجلس العلاقات الخارجية، استضافه
بترايوس، في بغداد بعد فترة قصيرة من انتخابات 2010، أصّر المالكي أن
الولايات المتحدة وبريطانيا والأمم المتحدة والسعودية تلاعبوا بالأصوات
وزوّروا الانتخابات. حينها مال عليّ واحدٌ من الحضور المذهولين، وهو والدٌ
لأحد مشاة البحرية الأمريكيين، وسألني "هل تقاتل القوات الأمريكية وتموت من
أجل إبقاء هذا الوغد في منصبه؟!"
مع استمرار الأزمة السياسية في التفاقم لعدة أشهر، طلب مني
السفير الجديد جيمس جِفري، والذي كنت عملت معه من قبل، العودة إلى بغداد
للمساعدة في التوسط بين الطوائف العراقية. عدت في أغسطس 2010، وصُدِمتُ
لرؤيتي تبديد النجاحات التي وصلنا إليه من قِبَل المالكي وقادة عراقيين
آخرين. كان الأكراد يتساءلون عن مبرر بقائهم جزءًا من الدولة العراقية
الفاشلة والتي قتلت مئات الآلاف من شعبهم منذ ثمانينيات القرن الماضي. وكان
السنة العرب -الذين تجاوزوا انقساماتهم الداخلية ليشكلوا ائتلافًا عراقيًا
علمانيًا مع نظرائهم الشيعة العرب، والأكراد، والتركمان، والمسيحيين-
غاضبين من أن يُطلَب منهم التتنازل عن رئاسة الوزراء بعد ضربهم للقاعدة،
ونجاحهم في الانتخابات. قادة الشيعة الإسلاميون أنفسهم كانوا يعبرون في
جلساتهم الخاصة عن عدم ارتياحهم لمسار الدولة العراقية تحت قيادة المالكي،
وفي لقاءاتهم مع الصدر كانوا يلقبونه صراحةً بالطاغية. ربما أسوأ ما في
الأمر كان أن الولايات المتحدة لم يعد يُنظر إليها باعتبارها الوسيط
الأمين.
بعد مساعدته للوصول إلى السلطة في 2006، قلت في 2010 أن
المالكي يجب أن يرحل. شعرت بالذنب لهجومي على صديقي "أبو إسراء"، ولكن
الأمر لم يكن شخصيًا، فمصالح الولايات المتحدة الحيوية كانت على المحك. لقد
فقدنا آلاف الأرواح من الأمريكيين والعراقيين، وأنفقنا تريليونات
الدولارات من أجل حماية أمننا القومي، لا من أجل تلبية طموحات شخص أو حزب.
كان يجب حماية العملية الدستورية، وكنا في حاجة لقائدٍ ذكي وصاحب عقلية
اقتصادية يوحد الصف ويعيد بناء العراق بعد أن استطاع المالكي، ذو العقلية
الأمنية، دحر الميليشيات المسلحة والقاعدة.
في نقاشاتٍ مع كبار موظفي البيت الأبيض والسفير الأمريكي وقادة الجيش وزملاء آخرين، اقترحت أن يكون عادل عبد المهدي -نائب
الرئيس- خليفة للمالكي. عبد المهدي، العضو السابق في حزب البعث، شيعي
إسلامي معتدل، واقتصادي تلقى تعليمًا فرنسيًا، وعمل كوزير للمالية من قبل.
علاوة على ذلك، هو يحافظ على علاقات ممتازة مع الشيعة والسنة والأكراد،
وأيضًا مع إيران وتركيا والسعودية.
في 1 سيتمبر 2010، زار نائب الرئيس الأمريكي بايدن بغداد
لحضور حفل رحيل الجنرال راي أوديرنو ووصول الجنرال لويد أوستن كقائدٍ
للقوات الأمريكية. في تلك الليلة، أثناء العشاء الذي عقد في مقر إقامة
السفير وحضره بايدن وموظفوه والقادة العسكريون وكبار موظفي السفارة، عرضت
وجهة نظري باختصار وحماس بخصوص المالكي، وحاجتنا لاحترام العملية
الدستورية. لكن نائب الرئيس قال أن المالكي هو خيارنا الوحيد. في الواقع،
بعد ذلك بشهر، قال بايدن
لكبار موظفي الولايات المتحدة: "أراهن بمنصبي كنائب للرئيس أن المالكي
سيمدد اتفاقية صوفا"، في إشارة منه للاتفاقية التي تحدد وضع القوات
الأمريكية، والتي تسمح بوجود القوات بعد نفاذ المدة المقررة بنهاية 2011.
لم أكن الوحيد الذي اعترض على وجود "أبو إسراء". فحتى قبل
عودتي إلى بغداد، كان نائب السفير الأمريكي روبرت فورد، وأوديرنو، والسفير
البريطاني السير جون جِنكينز، والسفير التركي مراد أوزتشاليك، يحاولون
الضغط من أجل رحيل المالكي، متصادمين بذلك مع البيت الأبيض، والسفير
الأمريكي كريستوفر هيل، وبريت ماكجورك، النائب المستقبلي لمساعد وزير
الخارجية وأحد أشد المتحمسين للمالكي. بانضمام أوستن أيضًا لمعسكر المالكي،
ظللنا في مأزق، خصوصًا لأن القادة العراقيين كانوا منقسمين، وعاجزين عن
الاتفاق على بديل للمالكي.
على الرغم من ذلك، لم تكن نقاشاتنا لتعني الكثير، لأن الرجل
الأقوى في العراق والشرق الأوسط، الجنرال قاسم سليماني، قائد وحدة قوات
القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني، كان على وشك حل الأزمة بنفسه. خلال
زيارة بايدن لبغداد، استدعى سليماني القادة العراقيين إلى طهران. فبعد عقود
من تلقي الدعم والمال من إيران، كان القادة العراقيون يشعرون بالولاء له،
ويدركون أن النفوذ الأمريكي في العراق يتراجع بينما يزداد نفوذ إيران. على
حسب ما رواه مسؤول عراقي اطلع على ما دار في الاجتماع، قال لهم سليماني:
"الأمريكيون سيتركونكم يومًا ما، ولكننا سنظل دائمًا جيرانكم".
بعد اتفاق القادة العراقيين المتناحرين على العمل سويًا، نقل
لهم سليماني قرارات مرشد الثورة الإيرانية: يجب أن يبقى المالكي رئيسًا
للوزراء، كما يجب أن يظل جلال طالباني، رجل العصابات الكردي الذي تربطه
بإيران علاقات تمتد لعقود، الرئيس، والأهم من هذا يجب إجبار الجيش الأمريكي
على الرحيل بنهاية عام 2011. كما حذّر سليماني بوضوح قائلًا أن من يتعاون
من القادة سيظل على علاقات جيدة مع إيران مستفيدًا مما تقدمه من أموال ودعم
سياسي، أما أولئك الذين يتحدون الجمهورية الإسلامية، فعليهم تحمل العواقب
الوخيمة لذلك.
خيار واشنطن
كنت مصممًا على عدم السماح للجنرال الإيراني، الذي قتل
أعدادًا لا تحصى من القوات الأمريكية، بأن تكون له الكلمة الأخيرة فيما
يتعلق بالوجود الأمريكي في العراق. في أكتوبر، ناشدت السفير الأمريكي جِفري
أن يأخذ خطوات حقيقية تجنبنا هذا المآل. قلت أن إيران عازمة على إجبار
الولايات المتحدة على الخروج من العراق بذلك الشكل المهين، وأن هذه الحكومة
الانقسامية الطائفية في بغداد برئاسة المالكي ستؤدي حتمًا إلى حرب أهلية
أخرى، ثم إلى صراع إقليمي شامل. ربما كنا نستطيع تجنب ذلك لو تصدينا لإيران
بتشكيل حكومة موحدة تلتف حول بديل وطني مثل عبد المهدي. كنت أعرف أن الأمر
سيكون صعبًا للغاية، ولكن في ظل وجود خمسين ألفًا من القوات الأمريكية لا
تزال على الأرض، كان الأمر مختلفًا، وكانت الولايات المتحدة لاعبًا قويًا.
والبديل لذلك كان خسارة استراتيجية أمريكية في العراق والشرق الأوسط بشكل
أوسع. الغريب في الأمر أن السفير شاركني مخاوفي ونقلها لكبار المسؤولين في
البيت الأبيض، طالبًا منهم أن يرفعوها للرئيس ونائبه، وأيضًا لكبار مسؤولي
الأمن القومي.
في الوقت الذي كنت يائسًا فيه من إمكانية تجنب الكارثة، استخدمت كل ما أملك من رأس مال سياسي كي أرتب لقاءً بين جيفري وأنتوني بلينكن،
مستشار بايدن للأمن القومي ومساعده الأهم فيما يتعلق بشؤون العراق، مع
واحد من أكبر المراجع الشيعية في العراق. قال رجل الدين الشيعي، مستخدمًا
لغةً عنيفة غير معهودة، أن إياد علاوي، الذي تولى رئاسة الوزراء بشكل مؤقت
بين عامي 2004 و2005، وعبدالمهدي، كانا الوحيدَين من بين قادة الشيعة
القادرين على توحيد العراق. وأضاف أن المالكي كان رئيس وزراءٍ لحزب الدعوة،
لا للعراق، وأنه سيقود البلاد للخراب.
ولكن كل المحاولات ذهبت سدى. فبحلول نوفمبر، قرر البيت الأبيض
الاستمرار في استراتيجيته الكارثية تجاه العراق، إذ تم تجاهل نتائج
الانتخابات والعملية الدستورية العراقية، ودعمت الولايات المتحدة المالكي
بشكل كامل. فقط حاولت واشنطن إبعاد طالباني واستبداله بـعلاوي كمكافأة
لترضية الائتلاف العراقي.
في اليوم التالي، ناشدت مرة أخرى بلينكن، وجِفري، وأوستن،
وزملائي في السفارة، ورؤسائي في القيادة المركزية؛ الجنرال جيم ماتيس
والجنرال جون ألن، وحذّرتهم من أننا نرتكب خطئًا سيكون له عواقب تاريخية.
نوّهت أن المالكي سيستمر في تعزيز موقعه في السلطة بتصفية خصومه سياسيًا،
وأن طالباني لن يتخلى أبدًا عن الكرسي الذي حصل عليه بعد عقود من الصراع مع
نظام صدام، وأن السنة سيثورون مرة أخرى عندما يدركون أننا لم نف بتعهداتنا
لهم بعد هزيمة الصحوات للقاعدة.
كان ماتيس وألِن متعاطفَين، إلا أن مؤيدي المالكي لم يبالوا.
أرسلني السفير إلى الأردن للالتقاء مع مجلس كبار قادة السنة العراقيين،
حاملًا رسالة ملخصها أنهم يجب أن يشاركوا في حكومة المالكي. جاء الرد كما
توقعته تمامًا، سيشاركون في الحكومة في بغداد، ولكنهم لن يسمحوا أن يتم حكم
العراق من قبل إيران وعملائها. لن يقبلوا أن يعيشوا تحت حكم شيعي ديني، أو
أن يتم تهميشهم. فبعد ما قاموا به من تحويل بنادقهم تجاه القاعدة في فترة
الصحوة، من حقهم الآن أن يطالبوا بنصيبهم في العراق الجديد، لا أن يعاملوا
كمواطنين من الدرجة الثانية. وحذروا أنه ما لم يحدث ذلك، فإنهم على استعداد
لحمل السلاح مرةً أخرى.
استمرت الأزمة في التفاقم برفض طالباني طلب البيت الأبيض
بالتنحي، ولجأ إلى إيران لدعمه في الاستمرار في السلطة. كذلك بدأ المالكي،
بتعليمات من إيران، تشكيل مجلس وزراء يضم بعض رجال إيران المخلصين في
العراق. فتم تعيين هادي العامري، قائد فيلق بدر سيء السمعة، وزيرًا
للمواصلات، متحكمًا في الموانئ البحرية والجوية والبرية ذات الأهمية
الاستراتيجية الحساسة. وأصبح خضير خزاعي نائبًا للرئيس، ولاحقًا قائمًا
بأعمال الرئيس. كذلك أصبح أبو مهدي المهندس، المسؤول عن تخطيط عملية تفجير
السفارة الأمريكية بالكويت التي نفّذها حزب الدعوة عام 1983، مستشارًا
للمالكي، وجارًا له في المنطقة الخضراء. وتم الإفراج عن مئات، بل ربما
آلاف، المعتقلين المنتمين لتنظيم الصدر. كما أوقف المالكي عمل القسم المختص
بإيران في جهاز الاستخبارات الوطني، مُحدثًا شللًا في قدرة الحكومة
العراقية على رصد ومراقبة عدو مجاور لها.
كانت السياسة الأمريكية تجاه العراق في حالٍ يرثى لها.
انقسمت كتلة الائتلاف العراقي إلى مجموعات طائفية وعرقية حانقة على ما
اعتبرته غدرًا من قبل الأمريكيين، وتدافع قادتها المتناحرون على المناصب
الحكومية، خشية أن يتم تجاهلهم من قبل نظام المحسوبية العراقي. تشكلت
الحكومة العراقية على عجل بدلًا من أن يستغرق تشكيلها ثلاثين يومًا طبقًا
للدستور العراقي، وحصل قادة السنة على مناصب -تبدو رفيعة- ولكنها بلا
صلاحيات حقيقية. وخلال فترة قصيرة، عملت دولة المالكي البوليسية على إبعاد
أغلبهم عن مجال الفاعلية السياسية، إذ تقف مدرعات M1A1 أمريكية الصنع على
أبواب منازلهم قبل إلقاء القبض عليهم. في ديسمبر 2011، خلال ساعات بعد
انسحاب القوات الأمريكية من العراق، حاول المالكي القبض على خصمه التاريخي،
النائب طارق الهاشمي، الذي حُكِم عليه غيابيًا بالإعدام. وبعدها بعام تم
التخلص من وزير المالية رافع العيساوي.
لم يعيّن المالكي أبدًا وزيرًا للداخلية أو الدفاع -متفقًا
عليهما من البرلمان- ولا رئيسًا للاستخبارات، مضطلعًا بهذه المهام بنفسه.
كما أنه نكص تقريبًا كل وعوده التي أعطاها لخصومه السياسيين بإشراكهم في
السلطة بعدما صوتوا له مرةً أخرى في البرلمان في نهاية العام 2010.
كذلك لم يفِ المالكي، بتعليمات من إيران، بالتعهدات التي
أعطاها للولايات المتحدة، فلم يجدد الاتفاقية الأمنية في نهاية 2011، والتي
كان من شأنها السماح للقوات الأمريكية بالبقاء في العراق. ولم يحل مكتب
القائد العام الخاص به، وهو الكيان الذي استخدمه لتجاوز سلم القيادة
العسكرية بجعل كل القادة العسكريين يعطونه التقارير مباشرةً. كذلك لم يتخل
عن السيطرة على قوات محاربة الإرهاب المدربة من قبل الولايات المتحدة،
وقوات "صوات" (SWAT)، محولًا إياهم لحرس خاص به. ولم يفكك أيضًا المنظمات
الاستخباراتية السرية، ولا السجون ومؤسسات التعذيب، التي استغلها لمعاقبة
خصومه. ولم يلتزم بالقوانين المحددة لصلاحياته، لاجئًا في كل مرة لمحاكم
شعبية تفصِّل القوانين على مقاسه. وحتى الآن لم يصدر عفوًا شاملًا، كان
يمكنه أن يخفف من حدة الغضب لدى الفصائل الشيعية والسنية، والتي كانت قد
بدأت الدخول تدريجيًا إلى المجال السياسي.
باختصار، أصبح العراق في عهد المالكي عراق الرجل الواحد،
والحزب الواحد (حزب الدعوة)، وهو ما لا يختلف كثيرًا عن الأمر في فترة حكم
نظام صدام وحزب البعث. على الأقل لم يتحالف صدام مع عدو الولايات المتحدة
الاستراتيجي: إيران، ولم تنفق واشنطن تريليون دولار لدعمه. ما الذي يتبقى
من "الديمقراطية" إذا كان رجلٌ واحدٌ وحزبٌ واحدٌ تربطهما بإيران علاقات
وثيقة يتحكمان في القضاء والشرطة والجيش والمخابرات وعائدات النفط وموارد
الدولة والبنك المركزي. في ظل هذه الظروف، لم يعد تجدد اشتعال حرب أهلية
ذات طابع عرقي طائفي مجرد احتمال، بل بات مؤكدًا.
تقدمت باستقالتي في 31 ديسمبر 2010 اعتراضًا على ما يحدث.
والآن، إذ تقف الولايات المتحدة تجاه العراق موقفًا مرتبكًا مرةً أخرى،
أشعر بالتزام وطني وأخلاقي يحتّم عليّ أن أوضح كيف وصلنا لهذا المأزق.
لم تكن الأزمة التي تجتاح العراق والشرق الأوسط قابلة للتوقع
فقط، بل تم التنبؤ بها بالفعل، وكان من الممكن تجنبها. فبدعمه غير المشروط
وتسليحه للمالكي، مدّ الرئيس أوباما في عمر الصراع الذي أشعله الرئيس بوش
بحماقة. الدولة العراقية الآن هي دولة فاشلة وهشة، وكغيرها من دول الشرق
الأوسط الأخرى، منسقمة طائفيًا وعرقيًا. في هذه الحرب المقدسة بين السنة
والشيعة، يبدو أن الولايات المتحدة ستكون الخاسر الأكبر، في ظل وجود حلفاءٍ
لا وزن لهم، ومتطرفين يخططون لـ"11 سبتمبر" أخرى.
تجاهل مؤيدو المالكي المتحمسون إشارات التحذير من الأمريكيين،
واستسلموا لجنرال إيراني ليقرر مصير العراق في 2010. للمفارقة، نفس هؤلاء
المسؤولين ينادون الآن بإنقاذ العراق، بيد أنهم مازالوا يرفضون إدانة انتهاكات المالكي رسميًا، بل وما زالوا يمدونه بالسلاح الذي يمكّنه من محاربة خصومه السياسيين.
تعليقات